راهنت مصر على دور الوساطة لإقرار هدنةٍ توقف الحرب على قطاع غزّة؛ تحفظ سلامة الحدود وأمنها، وتمنع سيناريو التهجير، وتحدّ من تبعاتٍ أخرى خطرة، لكن استمرار العدوان يكشف أن جهود الوساطة غير كافيةٍ لمواجهة التحدّيات، بما في ذلك تأثيرات اجتياح رفح. وكانت مواقف القاهرة المعلنة أخيراً من رفض السيطرة على معبر رفح، والتحفّظ على مشاريع لإدارته من أطرافٍ خارج غزّة، كما إدخال شركة أمنية أميركية، هذا بجانب رفض التهجير، قد دفعت إسرائيل إلى شنّ حملة تحريضٍ، وتراشق دبلوماسي، سبقتهما تعبئةلإ إعلامية، ركّزت على قضايا المساعدات وأمن الحدود، ومفاوضات التوصّل إلى هدنة.
طالب نتنياهو بتشغيل المعبر، متّهما مصر بأنها "تحتجز سكّان غزّة رهينة"، بينما اعتبرت القاهرة أن فتح المعبر سيعني، ضمنياً، قبول السيطرة العسكرية عليه وعلى مدينة رفح معا، بالمخالفة لبنود اتفاقية السلام، وأيضا اتفاقية إدارة المعابر التي تتضمّن مشاركة أوروبية، واحتمال عودة هذه المشاركة مطروح مستقبلا حلّاً بديلاً، يحقق هدف إعادة المعبر للعمل وإبعاد حركة حماس، خصوصاً مع رفض السلطة الفلسطينية تولي مهمة إدارته حاليا.
وترتّبت على موقف مصر محاولة إدخال المساعدات إلى قطاع غزّة من معبر كرم أبو سالم مؤقّتاً، بعد تدخّل الرئيس الأميركي جو بايدن، مطالباً نظيره المصري، عبد الفتاح السيسي، بإيصال المساعدات. ومن جانب آخر، يمكن أن يساعد الاتفاق، في ادّعاء الاحتلال التزامه "ضوابط الحرب" وقرار محكمة العدل الدولية، في إيصال المساعدات إلى سكّان القطاع.
وإذا كان التفاهم بشأن معبر رفح ممكناً، يبقى وجود القوات العسكرية في رفح (المتمركزة منذ ثلاثة أسابيع) مشكلة حقيقية للقاهرة، لأنه يحوّلها من وسيطٍ إلى طرفٍ يسعى إلى التفاوض مع إسرائيل لإبعادها عن الحدود، أو تجنّب بقائها طويلا، وهي ليست منفصلة عن حملات تحريض ضمن حرب الدعاية، والتي يحوّل فيها الاحتلال تقارير إعلامية يدفع لتعميمها إلى خطاب رسمي، يحشُر فيها أكاذيب وادّعاءات ضمن وقائع الحرب، ليحقّق أهدافه، وما بين ذلك اتهام المقاومة بارتكاب عنفٍ جنسيٍّ ضد الرهائن، خلال 7 أكتوبر، واستخدام مؤسّسات أمميةٍ في غزّة لأغراضٍ عسكرية، بينما تمارس ضد مصر دعاية هدفها التحريض، وتتضمّن تمرير السلاح للمقاومة (ادّعى الاحتلال العثور على 50 نفق بين رفح وسيناء) واحتمال تهريب الأسري عبر الأنفاق وإخفائهم فى سيناء، غير الادّعاء كذبا، أن مصر سبب تعطيل اتفاق الهدنة، بتغيّر المفاوض المصري في بنود الاتفاق الذى وافقت عليه "حماس". لكن الظاهر أن غرض مجمل الدعاية الإسرائيلية تبرير استمرار العدوان، واجتياح رفح، وتمركز قواتٍ عسكرية فيها، تمهيداً لسيناريو محتمل يتمثّل في عزل المدينة عن القطاع خطوة أولى، وتفريغها من سكّانها تدريجيا (نزح منها 950 ألفا) لأحكام السيطرة عليها، ضمن خطّة تأمين الحدود، تريد فرض واقع جديد، عبر القوة العسكرية، واحداً من أشكال المواجهة مع المقاومة، بتماسّ أيضا مع مصالح مصر وأمنها.
وقبل الاجتياح، مهّدت إسرائيل، بالطريقة نفسها، التقدّم، خطوة خطوة، واختبار ردود فعل الأطراف المختلفة، خلال ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قال نتنياهو "إن إسرائيل يجب أن تسيطر على حدود غزّة على مصر" وتكرّرت التصريحات في ما بعد، سواء ارتبطت بالأسرى أو إعادة الأمن، والسيطرة على معبر رفح على استخدامه من "حماس"، وفور إصدار محكمة العدل الدولية قرارها وقف العدوان على المدنية، قال إن الردّ سيكون احتلال رفح.
ويمارس الاحتلال دعايته، انطلاقاً من رغبته في تبرير إجرامه، خصوصاً في ظل سياقات دبلوماسية ودولية، تدينه، وتجعله منبوذاً من دوائر لم تعد محدودة، حيث تحوّلت الحرب مرتكزاً للاحتجاج عالميا، وإدانتها أصبحت موضوعاً للتقاضي في "الجنائية الدولية"، ومحكمة العدل الدولية. وعلى الصعيد الدبلوماسي، تبلور أوروبيا اتجاهٌ، يتحفّظ على تصدير الأسلحة، وزاد عدد الدول المعترفة بفلسطين (143 دولة) بانضمام إيرلندا والنرويج وإسبانيا، وإن كان بعضهم يرى الدعم رمزيا، فإنه أغضب إسرائيل، خصوصاً مع خطابات أوروبية لم تعد تساند الاحتلال بالدرجة نفسها، بل وبروز تصريحات التضامن مع الشعب الفلسطيني، منها إسبانيا التي توصّف العدوان حرب إبادة، والاصطفاف ضدها، الجانب الصحيح من التاريخ، هذا بجانب استئناف 14 دولة تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، والذي يحمل بجانب الدعم المالي رسالة سياسية، وعلى صعيد اقتصادي، يعد الاتحاد الأوروبي من أبرز شركاء إسرائيل تجاريا.
ويجد الاحتلال نفسه في مشهد يمثل فشلا دبلوماسيا، يضاف إلى إخفاق عسكري، بينما انتصاره الواضح صناعة كارثة إنسانية وتدمير هائل يدلّ على حجم الوحشية وجنون الانتقام من سكّان القطاع، الذي خرب بشكل مقصود، ومع تكرار استهداف النازحين خلال أيام مضت، في جباليا، ونواصي خان يونس، وسلسلة جرائم بشعة جرت الأحد والاثنين، استهدفت خيام ومراكز إيواء بشمال غرب رفح، وحين تسارع دول ومؤسسات أممية إدانتها للسلوك الوحشي والمروع من تفحم أجساد النازحين نتاج القصف الجوي، يعود ويعتذر عن "الحادث المأساوي" ويعد بالتحقيق في شأن "الخطأ".
وفي سياق متّصل، تتخذ التفاعلات، بين القاهرة وتل أبيب، صورة المواجهة، وليس مجرّد توتر في العلاقات كما يتكرّر وصفه، وان كانت إسرائيل فرضت التصعيد، واتبعت القاهرة سياسة الاحتواء، لكن هذا لا يغيّر حقيقة الواقع، ولا يخفف تبعات تجاوز الاحتلال مصالح مصر، وخرق اتفاقية السلام، وبقاء القوات الإسرائيلية على الحدود، وتكرار حوادث هجومٍ على معبر رفح.
ولا تقتضي المواجهة بالضرورة تكافؤ ردود الفعل، ويبقى أن تتصاعَد المواقف، مع جنوح إسرائيل في تجاوز حسابات العلاقة مع القاهرة، وهو ما دفع قيادة الجيش المصري، مع اجتياح رفح، إعلان رسائل عن امتلاك مصر إمكانيات الردع وحماية الأمن القومي، مع تأكيد موقفها الثابت من القضية الفلسطينية، وإن كانت الرسائل تهدف لطمأنة المصريين فإنها تحذير للاحتلال وداعميه، استكمل باستنفار في سيناء، وإبراز تدريبات للجيش الثاني الميداني (المكلف بالحدود الشرقية) وكلاهما إشارة إلى أن دور الوساطة لا يعني عجز مصر وتكبيلها، وفهمت إسرائيل وواشنطن هذه الرسائل، وتحاولان معالجة الوضع في معبر رفح عبر تفاهمات تقضي بانسحاب القوات العسكرية، مقابل إعادة تشغيله، وعودة التفاوض بشأن الحدود، وضبطها وفرض رقابة عليها، والاتفاق على حدود وجود الاحتلال فيها.
وشهد يوم الاثنين استشهاد جندي مصري بعد اشتباك مع قوات الاحتلال، وحذّرت القاهرة من المساس بأمن عناصر التأمين على الحدود وسلامتهم. وقالت إن الهجوم الإسرائيلي على محور فيلادلفيا يُحدث أوضاعا ميدانية ونفسية تصعب السيطرة عليها، مطالبة المجتمع الدولي بالتدخّل وتحمّل مسؤوليّته، بما لا يفجر الأوضاع.
ويمكن القول إن العدوان على غزّة أحد محدّدات إعادة صياغة العلاقات المصرية الإسرائيلية، وستحدّد تبعاتها مستوى التغيرات التي يمكن أن تحدُث، كما يدرك الطرفان أن سلاسة وسير التعاون لن يعودا بالوتيرة نفسها، حتى مع وجود مرتكزات قديمة، اتفاقية سلام، وتعاون اقتصادي، وميل النظام لاستقرار علاقته مع تل أبيب وعدم التصعيد تحت بند الحكمة في احتواء الأزمة والحفاظ على دور الوساطة للتوصّل إلى هدنة.
وعموماً، مصر عالقة ومتأثّرة بتداعيات الحرب، وستجد نفسها بحكم عوامل ارتباطاتها الدولية، وموقعها من الصراع، والجغرافيا، مطالبة بأداء أدوار ربما سيشكّل بعضها ضغطا إن لم تسع إلى تحرير إرادتها، واتخاذ مواقف تغادر التحفّظ، الذي دفع تل أبيب بالتجاوز في صلف وتبجح، وأن تردّ على التجاوزات بما يليق بها. ويتضح أن الاحتلال أعاد تعيين علاقاته مع دول الحدود، بعد 7 أكتوبر، بما في ذلك مراجعة ما استقر من قناعاتٍ حول تحقيق قبول وإقامة علاقات تطبيع، توفر له الأمن بتكلفة أقل، عبر التعاون ودون حروب.
وسبقت الإشارة إلى أن عملية رفح قد تكون تكتيكاً يُراد به الضغط على المقاومة ومصر معاً، وتصوير أن تراجع القوات العسكرية عن المعبر ومحور صلاح الدين، ومناطق النازحين غربا، يعدّ مكسباً يمهّد لتسليم أسرى، من دون وقف القتال، لكن ردّ المقاومة على أنباء عودة المفاوضات كان حاسماً، وطالبت بوقف العدوان أولاً، وأنه ليست هناك حاجة للتفاوض على اتفاق جديد، بعدما أعلنت موافقتها على المقترح المصري.
مهمٌّ أن تصطفّ مصر مع المقاومة، وتتمسّك بالانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من القطاع، ووقف شامل لإطلاق النار، مع رفض أي مشروعاتٍ لإدارة القطاع من دون موافقة قيادة سياسية تمثل القوى الوطنية الفلسطينية، وسيمثل ذلك موقفاً مسانداً للشعب الفلسطيني ودوراً يليق بمصر، لا يخصم من مكانتها، كما أنه الضمانة لأمن الحدود، ويقي من سيناريوهات خطرة يحاول فرضها الاحتلال، ويختبر موقف مصر منها، بوصفها الدولة العربية الأكبر تأثيراً في الملفّ حاليا والقادرة على التأثير في معادلة الحرب، إذ ما اتخذت مواقف تتطلّب أيضا مساندة عربية وحشداً دولياً.
طالب نتنياهو بتشغيل المعبر، متّهما مصر بأنها "تحتجز سكّان غزّة رهينة"، بينما اعتبرت القاهرة أن فتح المعبر سيعني، ضمنياً، قبول السيطرة العسكرية عليه وعلى مدينة رفح معا، بالمخالفة لبنود اتفاقية السلام، وأيضا اتفاقية إدارة المعابر التي تتضمّن مشاركة أوروبية، واحتمال عودة هذه المشاركة مطروح مستقبلا حلّاً بديلاً، يحقق هدف إعادة المعبر للعمل وإبعاد حركة حماس، خصوصاً مع رفض السلطة الفلسطينية تولي مهمة إدارته حاليا.
وترتّبت على موقف مصر محاولة إدخال المساعدات إلى قطاع غزّة من معبر كرم أبو سالم مؤقّتاً، بعد تدخّل الرئيس الأميركي جو بايدن، مطالباً نظيره المصري، عبد الفتاح السيسي، بإيصال المساعدات. ومن جانب آخر، يمكن أن يساعد الاتفاق، في ادّعاء الاحتلال التزامه "ضوابط الحرب" وقرار محكمة العدل الدولية، في إيصال المساعدات إلى سكّان القطاع.
وإذا كان التفاهم بشأن معبر رفح ممكناً، يبقى وجود القوات العسكرية في رفح (المتمركزة منذ ثلاثة أسابيع) مشكلة حقيقية للقاهرة، لأنه يحوّلها من وسيطٍ إلى طرفٍ يسعى إلى التفاوض مع إسرائيل لإبعادها عن الحدود، أو تجنّب بقائها طويلا، وهي ليست منفصلة عن حملات تحريض ضمن حرب الدعاية، والتي يحوّل فيها الاحتلال تقارير إعلامية يدفع لتعميمها إلى خطاب رسمي، يحشُر فيها أكاذيب وادّعاءات ضمن وقائع الحرب، ليحقّق أهدافه، وما بين ذلك اتهام المقاومة بارتكاب عنفٍ جنسيٍّ ضد الرهائن، خلال 7 أكتوبر، واستخدام مؤسّسات أمميةٍ في غزّة لأغراضٍ عسكرية، بينما تمارس ضد مصر دعاية هدفها التحريض، وتتضمّن تمرير السلاح للمقاومة (ادّعى الاحتلال العثور على 50 نفق بين رفح وسيناء) واحتمال تهريب الأسري عبر الأنفاق وإخفائهم فى سيناء، غير الادّعاء كذبا، أن مصر سبب تعطيل اتفاق الهدنة، بتغيّر المفاوض المصري في بنود الاتفاق الذى وافقت عليه "حماس". لكن الظاهر أن غرض مجمل الدعاية الإسرائيلية تبرير استمرار العدوان، واجتياح رفح، وتمركز قواتٍ عسكرية فيها، تمهيداً لسيناريو محتمل يتمثّل في عزل المدينة عن القطاع خطوة أولى، وتفريغها من سكّانها تدريجيا (نزح منها 950 ألفا) لأحكام السيطرة عليها، ضمن خطّة تأمين الحدود، تريد فرض واقع جديد، عبر القوة العسكرية، واحداً من أشكال المواجهة مع المقاومة، بتماسّ أيضا مع مصالح مصر وأمنها.
تتخذ التفاعلات، بين القاهرة وتل أبيب، صورة المواجهة، وليس مجرد توتر في العلاقات كما يتكرر وصفه
وقبل الاجتياح، مهّدت إسرائيل، بالطريقة نفسها، التقدّم، خطوة خطوة، واختبار ردود فعل الأطراف المختلفة، خلال ديسمبر/ كانون الأول الماضي، قال نتنياهو "إن إسرائيل يجب أن تسيطر على حدود غزّة على مصر" وتكرّرت التصريحات في ما بعد، سواء ارتبطت بالأسرى أو إعادة الأمن، والسيطرة على معبر رفح على استخدامه من "حماس"، وفور إصدار محكمة العدل الدولية قرارها وقف العدوان على المدنية، قال إن الردّ سيكون احتلال رفح.
ويمارس الاحتلال دعايته، انطلاقاً من رغبته في تبرير إجرامه، خصوصاً في ظل سياقات دبلوماسية ودولية، تدينه، وتجعله منبوذاً من دوائر لم تعد محدودة، حيث تحوّلت الحرب مرتكزاً للاحتجاج عالميا، وإدانتها أصبحت موضوعاً للتقاضي في "الجنائية الدولية"، ومحكمة العدل الدولية. وعلى الصعيد الدبلوماسي، تبلور أوروبيا اتجاهٌ، يتحفّظ على تصدير الأسلحة، وزاد عدد الدول المعترفة بفلسطين (143 دولة) بانضمام إيرلندا والنرويج وإسبانيا، وإن كان بعضهم يرى الدعم رمزيا، فإنه أغضب إسرائيل، خصوصاً مع خطابات أوروبية لم تعد تساند الاحتلال بالدرجة نفسها، بل وبروز تصريحات التضامن مع الشعب الفلسطيني، منها إسبانيا التي توصّف العدوان حرب إبادة، والاصطفاف ضدها، الجانب الصحيح من التاريخ، هذا بجانب استئناف 14 دولة تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، والذي يحمل بجانب الدعم المالي رسالة سياسية، وعلى صعيد اقتصادي، يعد الاتحاد الأوروبي من أبرز شركاء إسرائيل تجاريا.
ويجد الاحتلال نفسه في مشهد يمثل فشلا دبلوماسيا، يضاف إلى إخفاق عسكري، بينما انتصاره الواضح صناعة كارثة إنسانية وتدمير هائل يدلّ على حجم الوحشية وجنون الانتقام من سكّان القطاع، الذي خرب بشكل مقصود، ومع تكرار استهداف النازحين خلال أيام مضت، في جباليا، ونواصي خان يونس، وسلسلة جرائم بشعة جرت الأحد والاثنين، استهدفت خيام ومراكز إيواء بشمال غرب رفح، وحين تسارع دول ومؤسسات أممية إدانتها للسلوك الوحشي والمروع من تفحم أجساد النازحين نتاج القصف الجوي، يعود ويعتذر عن "الحادث المأساوي" ويعد بالتحقيق في شأن "الخطأ".
مهم أن تصطفّ مصر مع المقاومة، وتتمسك بالانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من القطاع، ووقف شامل لإطلاق النار
وفي سياق متّصل، تتخذ التفاعلات، بين القاهرة وتل أبيب، صورة المواجهة، وليس مجرّد توتر في العلاقات كما يتكرّر وصفه، وان كانت إسرائيل فرضت التصعيد، واتبعت القاهرة سياسة الاحتواء، لكن هذا لا يغيّر حقيقة الواقع، ولا يخفف تبعات تجاوز الاحتلال مصالح مصر، وخرق اتفاقية السلام، وبقاء القوات الإسرائيلية على الحدود، وتكرار حوادث هجومٍ على معبر رفح.
ولا تقتضي المواجهة بالضرورة تكافؤ ردود الفعل، ويبقى أن تتصاعَد المواقف، مع جنوح إسرائيل في تجاوز حسابات العلاقة مع القاهرة، وهو ما دفع قيادة الجيش المصري، مع اجتياح رفح، إعلان رسائل عن امتلاك مصر إمكانيات الردع وحماية الأمن القومي، مع تأكيد موقفها الثابت من القضية الفلسطينية، وإن كانت الرسائل تهدف لطمأنة المصريين فإنها تحذير للاحتلال وداعميه، استكمل باستنفار في سيناء، وإبراز تدريبات للجيش الثاني الميداني (المكلف بالحدود الشرقية) وكلاهما إشارة إلى أن دور الوساطة لا يعني عجز مصر وتكبيلها، وفهمت إسرائيل وواشنطن هذه الرسائل، وتحاولان معالجة الوضع في معبر رفح عبر تفاهمات تقضي بانسحاب القوات العسكرية، مقابل إعادة تشغيله، وعودة التفاوض بشأن الحدود، وضبطها وفرض رقابة عليها، والاتفاق على حدود وجود الاحتلال فيها.
وشهد يوم الاثنين استشهاد جندي مصري بعد اشتباك مع قوات الاحتلال، وحذّرت القاهرة من المساس بأمن عناصر التأمين على الحدود وسلامتهم. وقالت إن الهجوم الإسرائيلي على محور فيلادلفيا يُحدث أوضاعا ميدانية ونفسية تصعب السيطرة عليها، مطالبة المجتمع الدولي بالتدخّل وتحمّل مسؤوليّته، بما لا يفجر الأوضاع.
ويمكن القول إن العدوان على غزّة أحد محدّدات إعادة صياغة العلاقات المصرية الإسرائيلية، وستحدّد تبعاتها مستوى التغيرات التي يمكن أن تحدُث، كما يدرك الطرفان أن سلاسة وسير التعاون لن يعودا بالوتيرة نفسها، حتى مع وجود مرتكزات قديمة، اتفاقية سلام، وتعاون اقتصادي، وميل النظام لاستقرار علاقته مع تل أبيب وعدم التصعيد تحت بند الحكمة في احتواء الأزمة والحفاظ على دور الوساطة للتوصّل إلى هدنة.
يجد الاحتلال نفسه في مشهد يمثل فشلا دبلوماسيا، يضاف إلى إخفاق عسكري، بينما انتصاره الواضح صناعة كارثة إنسانية
وعموماً، مصر عالقة ومتأثّرة بتداعيات الحرب، وستجد نفسها بحكم عوامل ارتباطاتها الدولية، وموقعها من الصراع، والجغرافيا، مطالبة بأداء أدوار ربما سيشكّل بعضها ضغطا إن لم تسع إلى تحرير إرادتها، واتخاذ مواقف تغادر التحفّظ، الذي دفع تل أبيب بالتجاوز في صلف وتبجح، وأن تردّ على التجاوزات بما يليق بها. ويتضح أن الاحتلال أعاد تعيين علاقاته مع دول الحدود، بعد 7 أكتوبر، بما في ذلك مراجعة ما استقر من قناعاتٍ حول تحقيق قبول وإقامة علاقات تطبيع، توفر له الأمن بتكلفة أقل، عبر التعاون ودون حروب.
وسبقت الإشارة إلى أن عملية رفح قد تكون تكتيكاً يُراد به الضغط على المقاومة ومصر معاً، وتصوير أن تراجع القوات العسكرية عن المعبر ومحور صلاح الدين، ومناطق النازحين غربا، يعدّ مكسباً يمهّد لتسليم أسرى، من دون وقف القتال، لكن ردّ المقاومة على أنباء عودة المفاوضات كان حاسماً، وطالبت بوقف العدوان أولاً، وأنه ليست هناك حاجة للتفاوض على اتفاق جديد، بعدما أعلنت موافقتها على المقترح المصري.
مهمٌّ أن تصطفّ مصر مع المقاومة، وتتمسّك بالانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من القطاع، ووقف شامل لإطلاق النار، مع رفض أي مشروعاتٍ لإدارة القطاع من دون موافقة قيادة سياسية تمثل القوى الوطنية الفلسطينية، وسيمثل ذلك موقفاً مسانداً للشعب الفلسطيني ودوراً يليق بمصر، لا يخصم من مكانتها، كما أنه الضمانة لأمن الحدود، ويقي من سيناريوهات خطرة يحاول فرضها الاحتلال، ويختبر موقف مصر منها، بوصفها الدولة العربية الأكبر تأثيراً في الملفّ حاليا والقادرة على التأثير في معادلة الحرب، إذ ما اتخذت مواقف تتطلّب أيضا مساندة عربية وحشداً دولياً.