تستعدّ السلطات المغربية لتنظيم مهرجان غنائي ضخم، هو "موازين" الذي دأبت على إحيائه منذ عدة سنوات، وستلتئم دورته التاسعة عشرة بين 21 و29 يونيو/ حزيران المقبل في الرباط، تحت رعاية الملك محمد السادس، واختار المنظّمون لهذه الدورة شعار التنوع والاحتفال عبر الموسيقى. لكن السياق الذي تنعقد فيه هذه الدورة من المهرجان المثير للجدل تطرح أسئلةً كثيرةً على منظميه، خصوصاً الأوضاع المأساوية في غزّة التي تتعرّض لعدوان إسرائيلي همجي غير مسبوق، تسبّب في إبادة جماعية تثير اليوم تعاطفاً شعبياً كبيراً مع الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم.
وفي المغرب المشهود له شعبياً بتضامنه التاريخي مع الشعب الفلسطيني، حيث تتواصل المسيرات والوقفات الشعبية باستمرار منذ بداية العدوان الإسرائيلي، تضامناً مع الفلسطينيين ونصرة لقضيتهم العادلة ولحربهم المشروعة في الدفاع عن حرّيتهم واستقلالهم، ترتفع عدّة أصوات للمطالبة بحجب دورة هذه السنة من المهرجان، احتراماً لأرواح الشهداء في غزّة، وتضامناً مع سكّانها الذين يتعرّضون لأبشع إبادة جماعية في العصر الحديث. وفي أكثر من مناسبة، تحوّلت هذه المطالب إلى شعاراتٍ تردّدها المسيرات الشعبية الحاشدة التي تشهدها باستمرار مدنٌ وقرى مغربية عديدة نصرة لغزّة. وفي المقابل، تصم السلطات المغربية آذانها عن هذه المطالب، وتستمر في الإعداد للمهرجان، في تحدٍّ مستفزٍّ لمشاعر مغاربةٍ كثيرين يطالبون بإلغائه، بل ولمطالب صادرة هذه المرّة عن أهالي غزة من مخيمات النازحين والناجين من محارقها!
وليست هذه هي المرّة الأولى التي يُقسِّم فيها هذا المهرجان الرأي العام المغربي إلى معارضين ومؤيدين لتنظيمه، فهو منذ أحداث عام 2001 ظلّ مثيراً للجدل داخل الساحة السياسية المغربية، أحياناً لأسباب إيديولوجية وأخرى لأسبابٍ مادية صرفة. يثير منتقدوه كلفته المادية المرتفعة في بلد 10% من سكّانه يعيشون تحت خط الفقر، وأيضاً سهراته التي تستضيف فنانين مثيري الجدل، بسبب مواقفهم أو طريقة لباسهم أو كلمات أغنياتهم، وينافح عنه منظموه بأنه مساحة لإظهار ثقافة الانفتاح والتسامح المغربي وفرصة لتسويق صورة المغرب السياحي عبر العالم.
الإصرار على تنظيم هذا المهرجان بدعوى الانتصار للفن والفرح، أو بدعوى إشاعة قيم التسامح والتعايش، في عالم أظهرت فيه الحرب على غزّة اختلال موازين قيمه الكونية ما بين الغرب والشرق والجنوب والشمال، هو تبرير المضطرّ والعاجز المغلوب على نفسه الذي لا يملك قرارَه بيده، وهو أيضاً إصرارٌ على التعنّت وتحدي مشاعر شرائح واسعة من المغاربة طالبوا بوقف التطبيع فلم تتم الاستجابة لمطالبهم، ويطالبون اليوم بوقف مهرجان مستفز، ولن تتم الاستجابة لهم هذه المرّة أيضاً، لتثبت السلطات المغربية أنها قادرة على تحدّي مشاعر شعبها، وتوهم نفسها بأن خياراتها المخجلة ومواقفها المرتبكة منذ اندلع العدوان الإسرائيلي على غزّة لم تكن خاطئة.
كان مخجلاً أن تصمت الرباط، طيلة الشهور السبعة الماضية، تجاه كثير مما يتعرّض له الفلسطينيون من تقتيل يومي في غزّة، بما في ذلك الجرائم المروّعة التي يذهب ضحيتها شهداء من الأطفال والنساء والمدنيين العزّل. وتصمت دبلوماسيتها عن التعليق على قرارات تاريخية مهمة، مثل قرار محكمة العدل الدولية ومذكّرة مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية التي تطالب لأول مرة في تاريخ هذه المحكمة بإصدار مذكّرة اعتقال رئيس حكومة الكيان الصهيوني، وتأتي اليوم، في استفزاز واضح، لتعلن عن تنظيم مهرجان ضخم للغناء والرقص بينما تشهد غزّة يومياً مجازر مروّعة يهتز لها الرأي العام العالمي غضباً واحتجاجاً وتنديداً.
سبق لهذا المهرجان أن توقّف ثلاث سنوات بسبب وباء كوفيد، ولن يضير منظميه أن يعلنوا حجبه هذه السنة، على الأقل احتراماً لضحايا مجازر غزّة، إذا كان التضامن معهم سيحرجهم، وسوف يُحسب لهم هذا الموقف، أما إذا مضوا في عنادهم فإن التاريخ القريب لن يرحمهم، لأن الظلم الذي يتعرّض له الفلسطينيون لن يدوم ما دامت مقاومتهم متّقدة، أما ظلم ذوي القربى فهو "أشد مَضاضَةً على المرء مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ"، كما يقول الشاعر العربي القديم، لأن جرحه لا يندمل!
إصرار السلطات المغربية، التي يرأس عاهلها "لجنة القدس"، على تنظيم مهرجان ضخم للرقص والغناء في الرباط، يمتد عدة أيام بلياليها، فيما يشهد الشعب الفلسطيني إبادة جماعية مستمرّة وتجويعاً مقصوداً منذ سبعة أشهر ونيف بدون توقف، هو أولاً وقبل كل شيء إهانة للشعب المغربي الذي تطالب عديدٌ من شرائحه بإلغائه، قبل أن يكون إهانة للشعب الفلسطيني الذي يقتل يومياً في مجازر ومحارق بشرية مروّعة كما حدث أخيراً في محرقة المخيّم. سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً، الإصرار على تنظيم هذا المهرجان في هذه الظروف والسياقات التي تزداد سوءاً كل يوم، هو عناد مرضي عند المنظمين، ومن يحمونهم، والمقصود بهذا العناد ليس الشعب الفلسطيني، لأنه مشغولٌ ببكاء شهدائه ومواساة جرحاه ومقاومة أعدائه، وإنما هو الإمعان في إذلال الشعب المغربي الأبي الذي تخرُج قوافله كل يوم تقريباً في أغلب المدن والقرى منتصرة للشعب في غزّة ومندّدة بصمت المتواطئين والمتخاذلين والمطبّعين.
أمام منظمي مهرجان موازين كل السنوات المقبلة لينظموا حفلاته ويحيوا سهراته، لكن غزّة أمامها فرصة تاريخية كبيرة لانتصارها الذي بات قاب قوسين أو أدنى، وقد قدّمت من أجله أكثر من 120 ألفاً ما بين شهيد وجريح، وهذا وقت الاختيار، لأن غزّة لم تعد مجرّد بقعة أرض صغيرة محاصرة ومدمّرة، وإنما تحوّلت، بفضل تضحيات سكّانها وصمود مقاومتها، إلى مفترق طرق عالمي كبير، مفتوح على ما سيكون عليه العالم مستقبلاً، وعلينا أن نختار طريقنا قبل فوات الأوان، لأن التاريخ لن يرحمنا إذا ما سلكنا الاتجاه المعاكس لحتميته التي سوف تنتصر للمظلوم ضد الظالم مهما طال الزمن.
وفي المغرب المشهود له شعبياً بتضامنه التاريخي مع الشعب الفلسطيني، حيث تتواصل المسيرات والوقفات الشعبية باستمرار منذ بداية العدوان الإسرائيلي، تضامناً مع الفلسطينيين ونصرة لقضيتهم العادلة ولحربهم المشروعة في الدفاع عن حرّيتهم واستقلالهم، ترتفع عدّة أصوات للمطالبة بحجب دورة هذه السنة من المهرجان، احتراماً لأرواح الشهداء في غزّة، وتضامناً مع سكّانها الذين يتعرّضون لأبشع إبادة جماعية في العصر الحديث. وفي أكثر من مناسبة، تحوّلت هذه المطالب إلى شعاراتٍ تردّدها المسيرات الشعبية الحاشدة التي تشهدها باستمرار مدنٌ وقرى مغربية عديدة نصرة لغزّة. وفي المقابل، تصم السلطات المغربية آذانها عن هذه المطالب، وتستمر في الإعداد للمهرجان، في تحدٍّ مستفزٍّ لمشاعر مغاربةٍ كثيرين يطالبون بإلغائه، بل ولمطالب صادرة هذه المرّة عن أهالي غزة من مخيمات النازحين والناجين من محارقها!
وليست هذه هي المرّة الأولى التي يُقسِّم فيها هذا المهرجان الرأي العام المغربي إلى معارضين ومؤيدين لتنظيمه، فهو منذ أحداث عام 2001 ظلّ مثيراً للجدل داخل الساحة السياسية المغربية، أحياناً لأسباب إيديولوجية وأخرى لأسبابٍ مادية صرفة. يثير منتقدوه كلفته المادية المرتفعة في بلد 10% من سكّانه يعيشون تحت خط الفقر، وأيضاً سهراته التي تستضيف فنانين مثيري الجدل، بسبب مواقفهم أو طريقة لباسهم أو كلمات أغنياتهم، وينافح عنه منظموه بأنه مساحة لإظهار ثقافة الانفتاح والتسامح المغربي وفرصة لتسويق صورة المغرب السياحي عبر العالم.
كان مخجلاً أن تصمت الرباط، طيلة الشهور السبعة الماضية، تجاه كثيرٍ مما يتعرّض له الفلسطينيون من تقتيل يومي في غزّة وتأتي اليوم لتعلن عن تنظيم مهرجان ضخم للغناء والرقص!
الإصرار على تنظيم هذا المهرجان بدعوى الانتصار للفن والفرح، أو بدعوى إشاعة قيم التسامح والتعايش، في عالم أظهرت فيه الحرب على غزّة اختلال موازين قيمه الكونية ما بين الغرب والشرق والجنوب والشمال، هو تبرير المضطرّ والعاجز المغلوب على نفسه الذي لا يملك قرارَه بيده، وهو أيضاً إصرارٌ على التعنّت وتحدي مشاعر شرائح واسعة من المغاربة طالبوا بوقف التطبيع فلم تتم الاستجابة لمطالبهم، ويطالبون اليوم بوقف مهرجان مستفز، ولن تتم الاستجابة لهم هذه المرّة أيضاً، لتثبت السلطات المغربية أنها قادرة على تحدّي مشاعر شعبها، وتوهم نفسها بأن خياراتها المخجلة ومواقفها المرتبكة منذ اندلع العدوان الإسرائيلي على غزّة لم تكن خاطئة.
كان مخجلاً أن تصمت الرباط، طيلة الشهور السبعة الماضية، تجاه كثير مما يتعرّض له الفلسطينيون من تقتيل يومي في غزّة، بما في ذلك الجرائم المروّعة التي يذهب ضحيتها شهداء من الأطفال والنساء والمدنيين العزّل. وتصمت دبلوماسيتها عن التعليق على قرارات تاريخية مهمة، مثل قرار محكمة العدل الدولية ومذكّرة مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية التي تطالب لأول مرة في تاريخ هذه المحكمة بإصدار مذكّرة اعتقال رئيس حكومة الكيان الصهيوني، وتأتي اليوم، في استفزاز واضح، لتعلن عن تنظيم مهرجان ضخم للغناء والرقص بينما تشهد غزّة يومياً مجازر مروّعة يهتز لها الرأي العام العالمي غضباً واحتجاجاً وتنديداً.
سبق لهذا المهرجان أن توقّف ثلاث سنوات بسبب وباء كوفيد، ولن يضير منظميه أن يعلنوا حجبه هذه السنة، على الأقل احتراماً لضحايا مجازر غزّة، إذا كان التضامن معهم سيحرجهم، وسوف يُحسب لهم هذا الموقف، أما إذا مضوا في عنادهم فإن التاريخ القريب لن يرحمهم، لأن الظلم الذي يتعرّض له الفلسطينيون لن يدوم ما دامت مقاومتهم متّقدة، أما ظلم ذوي القربى فهو "أشد مَضاضَةً على المرء مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ"، كما يقول الشاعر العربي القديم، لأن جرحه لا يندمل!
توقّف مهرجان موازين ثلاث سنوات بسبب "كوفيد"، ولن يضير منظميه حجبه هذه السنة، على الأقل احتراماً لضحايا مجازر غزّة
إصرار السلطات المغربية، التي يرأس عاهلها "لجنة القدس"، على تنظيم مهرجان ضخم للرقص والغناء في الرباط، يمتد عدة أيام بلياليها، فيما يشهد الشعب الفلسطيني إبادة جماعية مستمرّة وتجويعاً مقصوداً منذ سبعة أشهر ونيف بدون توقف، هو أولاً وقبل كل شيء إهانة للشعب المغربي الذي تطالب عديدٌ من شرائحه بإلغائه، قبل أن يكون إهانة للشعب الفلسطيني الذي يقتل يومياً في مجازر ومحارق بشرية مروّعة كما حدث أخيراً في محرقة المخيّم. سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً، الإصرار على تنظيم هذا المهرجان في هذه الظروف والسياقات التي تزداد سوءاً كل يوم، هو عناد مرضي عند المنظمين، ومن يحمونهم، والمقصود بهذا العناد ليس الشعب الفلسطيني، لأنه مشغولٌ ببكاء شهدائه ومواساة جرحاه ومقاومة أعدائه، وإنما هو الإمعان في إذلال الشعب المغربي الأبي الذي تخرُج قوافله كل يوم تقريباً في أغلب المدن والقرى منتصرة للشعب في غزّة ومندّدة بصمت المتواطئين والمتخاذلين والمطبّعين.
أمام منظمي مهرجان موازين كل السنوات المقبلة لينظموا حفلاته ويحيوا سهراته، لكن غزّة أمامها فرصة تاريخية كبيرة لانتصارها الذي بات قاب قوسين أو أدنى، وقد قدّمت من أجله أكثر من 120 ألفاً ما بين شهيد وجريح، وهذا وقت الاختيار، لأن غزّة لم تعد مجرّد بقعة أرض صغيرة محاصرة ومدمّرة، وإنما تحوّلت، بفضل تضحيات سكّانها وصمود مقاومتها، إلى مفترق طرق عالمي كبير، مفتوح على ما سيكون عليه العالم مستقبلاً، وعلينا أن نختار طريقنا قبل فوات الأوان، لأن التاريخ لن يرحمنا إذا ما سلكنا الاتجاه المعاكس لحتميته التي سوف تنتصر للمظلوم ضد الظالم مهما طال الزمن.