على الحدود، كان الجنديّ المصريّ البسيط للغاية، الذي يشبهنا جميعًا، من عجينِ هذه البلاد وطينها، من المجتمعِ الأوسع، والطبقة الكبرى، حيث نحن، والجيران، والشارع، والحارة، في القالبِ ذاته، بملامح متشابهة في طيبتها وأصالتها، وقلوبٍ متفقة على ثوابتَ ومسلّمات بالفطرة، وعقول تعرف بالغريزة من هي، أو على الأقل إن جهلت ذاتها، فهي تعرف عدوّها جيدًا، كان عبد الله، ابن هذا القوام الخالص، بتعليمٍ متوسّطٍ، وحروفٍ عربيّة تتعثرُ أحيانًا، لكن بيدين ثابتتين لا تتعثران أبدًا، وصدر صافٍ لا يعرف المداهنة، وقدمين تمتدان في رحمِ الأرض كجذورٍ راسخة، ولهذا تحديدًا، كان من الفئةِ التي يختارونها للمهمة الأشقى، على الحدود، في أوّل خطوطِ القتال.
يرى أمامه المذبحة قائمة، ولا يفصل بينه وبينها إلا سور وأسلاك ونصف كيلومتر لا أكثر، تصل إليه صرخاتُ الأطفال، ورائحة الجثث، ودخان المحرقة، وصليات الرصاص، وزلزلة القنابل، وتناديه "الندّاهة" من بحر غزّة أن يقوم، أن يحرّك شيئًا، أن يمسح الدموع عن الأمواج، أن يجفّف عرق المقاتلين، ويجبر قلوب الثكالى، ويضمّد جراحَ الأطفال، أو أن يفعل ما هو منوط به فعله، جنديًّا مقاتلًا، يأخذ موقعه وجبهته ومكانه، ويسدّ ثغره بالسلاح والرصاص، وعبد الله جامدٌ في مكانه، واقفًا بحكمِ الأمر والطاعة والجندية المدجّنة، في مكانٍ آخر، في برجِ المراقبة، "يراقب" إبادة أهله، يطمئنّ أنّ الدم المسفوك على بعد أمتار، لا "يطرطش" على حدود مصر، ولا يتجاوز الدم الأحمر الخط الأحمر، مهما كانت صعوبة التفريق بينهما.
لكنّ هذا الشاب، حديث العهد بالذلّ، وهو لا يعرفه، ولا يطيقه، ولا يستطيع إليه سبيلًا، ربّما ترجّاه طفل من غزّة ذات نهار، أو ذرف الكثير من دموعه ذات ليلة، فنفضَ عنه الشعور الذليل، ونوى لله نيّةً أن يكون على الموعد حين يجيء الموعد، وأن يري الله، ثم غزّة، منه خيرًا حين ينادي المنادي، فما كان منه إلا أن أخلص، ثم توكّل، وفي نهارٍ غامض، لا يفصح عنه آلهة القوات المسلحة في أقسام التكتيم الإعلامي، صعدت روح عبد الله رمضان، بعد طول صبرٍ وصومٍ على ما شهدته عيناه.
هل قنصه القناص، أم هو من بادر بإطلاقِ الرصاص، لا أحد يعلم الحقيقة على وجهِ التأكيد، لأنّ السادة، بلا سيادة، لديهم حسابات أخرى لا نعلمها، الله يعلمها، فقط نحن نخمّنها، ونصوغها في مفرداتٍ مقتضبة محدّدة، مثل الخيانة، والعمالة، والتفريط في الأرض والعرض والدم وحقوق الشهداء والشرف العسكري، بينما لو كان الفاعل رصاصة طائشة من أحد مقاومي غزّة، فلم أكن أستبعد أن تُحتل غزّة عربيًّا في اليوم التالي!
ولكن، كان الفاعل إسرائيليًّا، عدوًّا تاريخيًّا، ومحتلًّا مغتصبًا، وقاتلًا متسلسلًا، ومصّاصَ دماء، والشهيد؟ كان "أحد العناصر المكلفة بالتأمين"، في هذه الصياغة التي جمعت أقذر ما في مستخدم اللغة، وهي الثمانية والعشرون حرفًا ذاتها، التي تفسح مجالًا بحجم الكون، وبشرف كتاب الله، وبعزّة خطابات الأحرار، وبيانات البواسل الشرفاء، أن يُنعى الشهيد نعيًا يليق بتضحيته وشهامته وجلالة ما قدّم.
من قتل عبد الله رمضان؟ من تركنا نبحث عن اسمه ألف مرّة، ونتفحص وجوه الشهداء العسكريين على مدارِ يومٍ كامل، ونحتفي خطأً بمتوفيين اثنين من الجنود المصريين في حوادث عادية، حتى نصل أخيرًا، بمجهوداتٍ شخصية وشعبية وفردية، إلى اسم "شهيد العسكرية المصرية الذي استشهد برصاص إسرائيلي على الحدود في رفح"!
من قتل عبد الله رمضان؟ ليست إسرائيل من أطلق الرصاصة الأخيرة هذه المرّة، الرصاصة الأولى كانت منها، وهي كشكة إبرة، والرصاصة الثانية كانت من قيادة عبد الله العليا، وهي رصاصة أكثر وجعًا بمائة مليون مرّة، وتظلّ تنزف حتى يعود حقه، ممن قتله في المرّتين!
يرى أمامه المذبحة قائمة، ولا يفصل بينه وبينها إلا سور وأسلاك ونصف كيلومتر لا أكثر، تصل إليه صرخاتُ الأطفال، ورائحة الجثث، ودخان المحرقة، وصليات الرصاص، وزلزلة القنابل، وتناديه "الندّاهة" من بحر غزّة أن يقوم، أن يحرّك شيئًا، أن يمسح الدموع عن الأمواج، أن يجفّف عرق المقاتلين، ويجبر قلوب الثكالى، ويضمّد جراحَ الأطفال، أو أن يفعل ما هو منوط به فعله، جنديًّا مقاتلًا، يأخذ موقعه وجبهته ومكانه، ويسدّ ثغره بالسلاح والرصاص، وعبد الله جامدٌ في مكانه، واقفًا بحكمِ الأمر والطاعة والجندية المدجّنة، في مكانٍ آخر، في برجِ المراقبة، "يراقب" إبادة أهله، يطمئنّ أنّ الدم المسفوك على بعد أمتار، لا "يطرطش" على حدود مصر، ولا يتجاوز الدم الأحمر الخط الأحمر، مهما كانت صعوبة التفريق بينهما.
لكنّ هذا الشاب، حديث العهد بالذلّ، وهو لا يعرفه، ولا يطيقه، ولا يستطيع إليه سبيلًا، ربّما ترجّاه طفل من غزّة ذات نهار، أو ذرف الكثير من دموعه ذات ليلة، فنفضَ عنه الشعور الذليل، ونوى لله نيّةً أن يكون على الموعد حين يجيء الموعد، وأن يري الله، ثم غزّة، منه خيرًا حين ينادي المنادي، فما كان منه إلا أن أخلص، ثم توكّل، وفي نهارٍ غامض، لا يفصح عنه آلهة القوات المسلحة في أقسام التكتيم الإعلامي، صعدت روح عبد الله رمضان، بعد طول صبرٍ وصومٍ على ما شهدته عيناه.
السادة، بلا سيادة، لديهم حسابات أخرى لا نعلمها، الله يعلمها، فقط نحن نخمّنها، ونصوغها في مفرداتٍ مقتضبة محدّدة، مثل الخيانة، والعمالة...
هل قنصه القناص، أم هو من بادر بإطلاقِ الرصاص، لا أحد يعلم الحقيقة على وجهِ التأكيد، لأنّ السادة، بلا سيادة، لديهم حسابات أخرى لا نعلمها، الله يعلمها، فقط نحن نخمّنها، ونصوغها في مفرداتٍ مقتضبة محدّدة، مثل الخيانة، والعمالة، والتفريط في الأرض والعرض والدم وحقوق الشهداء والشرف العسكري، بينما لو كان الفاعل رصاصة طائشة من أحد مقاومي غزّة، فلم أكن أستبعد أن تُحتل غزّة عربيًّا في اليوم التالي!
ولكن، كان الفاعل إسرائيليًّا، عدوًّا تاريخيًّا، ومحتلًّا مغتصبًا، وقاتلًا متسلسلًا، ومصّاصَ دماء، والشهيد؟ كان "أحد العناصر المكلفة بالتأمين"، في هذه الصياغة التي جمعت أقذر ما في مستخدم اللغة، وهي الثمانية والعشرون حرفًا ذاتها، التي تفسح مجالًا بحجم الكون، وبشرف كتاب الله، وبعزّة خطابات الأحرار، وبيانات البواسل الشرفاء، أن يُنعى الشهيد نعيًا يليق بتضحيته وشهامته وجلالة ما قدّم.
من قتل عبد الله رمضان؟ من تركنا نبحث عن اسمه ألف مرّة، ونتفحص وجوه الشهداء العسكريين على مدارِ يومٍ كامل، ونحتفي خطأً بمتوفيين اثنين من الجنود المصريين في حوادث عادية، حتى نصل أخيرًا، بمجهوداتٍ شخصية وشعبية وفردية، إلى اسم "شهيد العسكرية المصرية الذي استشهد برصاص إسرائيلي على الحدود في رفح"!
من قتل عبد الله رمضان؟ ليست إسرائيل من أطلق الرصاصة الأخيرة هذه المرّة، الرصاصة الأولى كانت منها، وهي كشكة إبرة، والرصاصة الثانية كانت من قيادة عبد الله العليا، وهي رصاصة أكثر وجعًا بمائة مليون مرّة، وتظلّ تنزف حتى يعود حقه، ممن قتله في المرّتين!