تتكرّرُ الفواجع وأسمع أنّ القصف الإسرائيلي الأخير في رفح يتركّز على منطقة حيّ السلام. وحيُّ السلام هو موطني وموطن أهلي وعائلتي وعائلات كثيرة، الشاعر، وأبو لبدة، وبهلول، وزنون، وقشطة، والعرجا، وعبد العال، والترابين، وأبو جليدان، وعويص، وبارود، واللولو، وبركات، وأبو مرّ... وأعتقد أنّ عائلة الشاعر هي أكبر عائلة في تلك المنطقة.
إنّه لشَيء مزلزل أن تعود الذاكرة بي إلى طفولتي هناك في ظلّ الظرف الملحمي الحالي. هناك حيث كنتُ يوماً ألهو بطائرة ورقية، وفجأة انقضّ عليَّ جنودٌ إسرائيليّون خلال الانتفاضة الأُولى، وقاموا بِركلي وضربي، ثمّ هربت بأعجوبة. أتذكّر العدد الكبير من الجنود المدجّجين بالسلاح، وملابسهم التي تُشبه الرعب الذي فُطرت عليه قلوبهم، فقد تربّوا على إرهاب الآخرين الفلسطينيّين، وصارت وجوههم وأجسادهم قوالب إرهاب ورعب، ووجوههم غريبة، لا تشبه الأرض التي يمشون عليها، ولا السماء الزرقاء بشمسها المتوهّجة في الفضاء، والتي تُشعل أجسادَنا حُبّاً لأهلنا ولحارتنا ولكلِّ ما حولنا.
أتذكّرُ نظّارة أحدهم، ونحافته وهو يركلني، وأنا أتلوّى لأحمي نفسي من ضربة قد تصيب وجهي وعينَي، وأتذكّر كلمة "ليخ من هون"، أي ”أذهب من هنا“، وسؤال الألم في جسدي آنذاك: "كيف أذهب وأنت تطرحني أرضاً وتركلني يميناً وشمالاً بلا رحمة، أيها الشرير؟!". "ليخ من هون"! إنها حماقة وغطرسة الجبناء، يريدون طردناً من بيوتنا وهُم لممٌ من أصقاع الدنيا، دخلاء على أرضٍ لا تشبه وجوههم، ولا عاداتهم، ولا نظراتهم، ولا ملابسهم وسلاحهم، ولا طعامهم، ولا لغتهم القادمة من ماضٍ لم يعدْ يناسب أحداً.
أتذكّر وأخشى أن أُكرّر نفسي في ما أكتب على هذه الصفحات، لكنّ التكرار - وهنا أتّكئ على ما ذهب إليه إدوارد سعيد في أحد مقالاته المضيئة - هو قصّة الإنسانية التي تتكرّر في العائلة، وفي السرديات المختلفة، وفي مشاعر الإنسان، وفي اللغة. وهنا هو، أيضاً، حالة فلسطينية مأساوية، تتكرّر معالمها، وتستفحل مواجعها بطريقة تجعل اللغة أسيرة الحفر في المشاهد والظروف والأوضاع، والحفر في المشاعر التي تولّدها شرور الاحتلال الإسرائيلي الأكثر بشاعة وقهراً في الزمن البالي الحديث.
أتذكّر وجه الشهيد إيهاب بركات وخيوط الدم على وجهه النضر، وهم يزفّونه بالقرب من بيوتنا، وأتذكّر جنازة أستاذنا الشهيد يوسف الغريب، وقد انتهى للتوّ من تدريسنا تاريخ مصر، وذهب إلى خيمة شهيد آخر (ظافر أبو مذكور) لأداء واجب العزاء عند "ملعب برقة" حيثُ ارتقى. أتذكّر الشهداء والجرحى، ونفسي بينهم مجروحة، وأتذكّر جُرحي من رصاصة لا أعرف مصدرها استقرّت في كاحل قدمي اليمنى وكثرت القصص حولها، وها هي ثلاثون سنةً بعد الحادث تُطلّ لتُنذر بألّا حلّ لما تركته هذه الحادثة من أثر بنيوي في القدم اليمنى.
تفصيل صغير آخر لأقول إنّ في جسدي رعشة، وفي نفسي بانوراما أسىً على حارتي. سمعتُ صوتاً من هناك يقول بعد أن نفّذت الطائرات الإسرائيلية حزاماً نارياً على الحارة ”الحارة دمار، دمار، دمار يا أولاد"... وبعد كلّ دمار تأتي التقارير من الجيران ”دار بهلول، وأبو لبدة، ودار عمّك منصور طاحتْ، وعمّك حيدر، وعمّك إسماعيل، وابن عمّك زكي، وابن خالتك أبو حسن، ودار ابن العمّ أبو رامي، وابن العمّ أمين زويد، كلّها طاحت، ودار أخوك محمد فيها قذايف، ودار ودار... ". كلّ هذه الأهوال من خمس إلى ستّ دقائق من القصف العشوائي المتواصل على حارة كاملة في الأيام الأُولى من دخول رفح.
ثمَّ تأتي فاجعة أُخرى من استشهاد أبناء العمومة، أبناء عوّاد الشاعر، ثلاثة شباب إخوه وعمّهم جلال الشاعر أيضاً، وهناك مفقودون لا نعرفُ مصيرهم. يستشهدُ هؤلاء الشبّان لأنّهم كانوا يريدون أن يتفقّدوا مصائر بيوتهم المهدَّمة وينقذوا ما يمكن إنقاذه من بيوتهم لتساعدهم في رحلة العذاب الجديدة في أماكن لجوئهم في منطقة المواصي.
ويستمرّ شريط المأساة مع الخبر اللاحق: "ثمانون بالمائة من الحارة طاحت"، هذه آخر نسبة وردت من ابن أخي.
إنّ من يعرف هذه الحارة الكبيرة وعمائرها وعزّة أهلها في ما شيّدوه من بنايات جميلة، غالباً ما تكون قريبةً من حقول زيتون أو حمضيات، أو شجرة نخيل هنا وهناك، يُصاب بالدوار من حجم المأساة وتواليها.
يقول الطفل الذي كان يسرح في هذه الحقول في مواسم الحصاد وغيرها: "كيف حال الأشجار والنباتات في الحقول وهي مسرح بارود وحمم صواريخ تُرمى عليها ليل نهار؟ كيف حال الديوك والقطط والكلاب التي كانت تسرح وتمرح في الحارة؟ هل ما زالت هناك طيور الكركز، والخدادر والحساسين؟ ما تبقّى هناك من المخلوقات التي تغنّي نهاراً؟ هل خَفتَ هديلُ الحمام الذي يعطي خلفية رائعة لنوم الظهيرة؟ كيف حال النجوم وهي تتلألأ في السماء؟ هل حجبها الدخان؟ هل مات الهدوء أيضاً في هذه المنطقة التي تُسمّى حيَّ السلام، وهو حيٌ كبير نسبياً يمتدُّ من معبر رفح حتى منطقة البرازيل؟ هل تندبُ حظّها؟ لكلّ شيء من اسمه نصيب. أين حظّكَ الآن يا حيَّ السلام؟
هذه أسئلة يطرحها كلُّ أهالي غزّة عن حاراتهم وبيوتهم، وهم أهلُ حياة، وجوههم وهُم يدبكون في أعراسهم، وهُم يخشعون في صلواتهم، وهُم يضربون أعداءهم، وهُم يصنعون المعجزات بأجسادهم النحيلة ووجوههم العالية، وبلاغة أطفالهم وهُم يدقّون الطبل، يرقصون وينكّتون، وهُم يخافون، وهُم يشعلون في أجسادنا الدموع والحسرات خوفاً عليهم.
سأبتذلُ لو قلت: متى سيعود السلام إلى ”حيّ السلام؟"، فذاك سؤالٌ يسأله كلُ أهل غزّة.
تبتعد الآفاق عنّا، وتدبّ بنا الحيرة بعد فقدان الأحبة، والشوق للأهل والخوف عليهم، وخراب البيوت.
أرى لهيباً من نار يصدر من صدر الدبّابات التي يستهدفها المقاومون. هل هذا لهيب أمل؟ إنّه السؤال. هل هذا مصدر الأمل الوحيد في هذا الظلام الدامس؟
حيّ السلام، لا تسعفني البلاغة لأنّك قريبٌ منّي، أقرب ممّا أرى لأقول، وأبعد ممّا أقول لأرى، وإنّي موزَّعٌ بين مزارعك وبيوتك وشوارعك وكلام رجالك وقصص نسائك، والمواقف مع أطفالك، والكرة على أرجل شبابك وهي تُركل للأعالي وتعود على صدر يصوّبها نحو المرمى، وموسم قطف الزيتون الأخضر والأسود، وغداء السمك في بيت أخي عادل أبو عبد الله وزوجته الرائعة نجوى أمّ عبد الله، وصدى أذان الفجر بصوت خالي عوّاد الشاعر، وأذان الظهر الصاعد من روح ابن أخي خالد الشاعر: "حيَّ على الصلاة… حيَّ على الفلاح… الله أكبر… الله أكبر".
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن
إنّه لشَيء مزلزل أن تعود الذاكرة بي إلى طفولتي هناك في ظلّ الظرف الملحمي الحالي. هناك حيث كنتُ يوماً ألهو بطائرة ورقية، وفجأة انقضّ عليَّ جنودٌ إسرائيليّون خلال الانتفاضة الأُولى، وقاموا بِركلي وضربي، ثمّ هربت بأعجوبة. أتذكّر العدد الكبير من الجنود المدجّجين بالسلاح، وملابسهم التي تُشبه الرعب الذي فُطرت عليه قلوبهم، فقد تربّوا على إرهاب الآخرين الفلسطينيّين، وصارت وجوههم وأجسادهم قوالب إرهاب ورعب، ووجوههم غريبة، لا تشبه الأرض التي يمشون عليها، ولا السماء الزرقاء بشمسها المتوهّجة في الفضاء، والتي تُشعل أجسادَنا حُبّاً لأهلنا ولحارتنا ولكلِّ ما حولنا.
أتذكّرُ نظّارة أحدهم، ونحافته وهو يركلني، وأنا أتلوّى لأحمي نفسي من ضربة قد تصيب وجهي وعينَي، وأتذكّر كلمة "ليخ من هون"، أي ”أذهب من هنا“، وسؤال الألم في جسدي آنذاك: "كيف أذهب وأنت تطرحني أرضاً وتركلني يميناً وشمالاً بلا رحمة، أيها الشرير؟!". "ليخ من هون"! إنها حماقة وغطرسة الجبناء، يريدون طردناً من بيوتنا وهُم لممٌ من أصقاع الدنيا، دخلاء على أرضٍ لا تشبه وجوههم، ولا عاداتهم، ولا نظراتهم، ولا ملابسهم وسلاحهم، ولا طعامهم، ولا لغتهم القادمة من ماضٍ لم يعدْ يناسب أحداً.
لكلّ شيء من اسمه نصيب، فأين حظّك يا حيّ السلام؟
أتذكّر وأخشى أن أُكرّر نفسي في ما أكتب على هذه الصفحات، لكنّ التكرار - وهنا أتّكئ على ما ذهب إليه إدوارد سعيد في أحد مقالاته المضيئة - هو قصّة الإنسانية التي تتكرّر في العائلة، وفي السرديات المختلفة، وفي مشاعر الإنسان، وفي اللغة. وهنا هو، أيضاً، حالة فلسطينية مأساوية، تتكرّر معالمها، وتستفحل مواجعها بطريقة تجعل اللغة أسيرة الحفر في المشاهد والظروف والأوضاع، والحفر في المشاعر التي تولّدها شرور الاحتلال الإسرائيلي الأكثر بشاعة وقهراً في الزمن البالي الحديث.
أتذكّر وجه الشهيد إيهاب بركات وخيوط الدم على وجهه النضر، وهم يزفّونه بالقرب من بيوتنا، وأتذكّر جنازة أستاذنا الشهيد يوسف الغريب، وقد انتهى للتوّ من تدريسنا تاريخ مصر، وذهب إلى خيمة شهيد آخر (ظافر أبو مذكور) لأداء واجب العزاء عند "ملعب برقة" حيثُ ارتقى. أتذكّر الشهداء والجرحى، ونفسي بينهم مجروحة، وأتذكّر جُرحي من رصاصة لا أعرف مصدرها استقرّت في كاحل قدمي اليمنى وكثرت القصص حولها، وها هي ثلاثون سنةً بعد الحادث تُطلّ لتُنذر بألّا حلّ لما تركته هذه الحادثة من أثر بنيوي في القدم اليمنى.
تفصيل صغير آخر لأقول إنّ في جسدي رعشة، وفي نفسي بانوراما أسىً على حارتي. سمعتُ صوتاً من هناك يقول بعد أن نفّذت الطائرات الإسرائيلية حزاماً نارياً على الحارة ”الحارة دمار، دمار، دمار يا أولاد"... وبعد كلّ دمار تأتي التقارير من الجيران ”دار بهلول، وأبو لبدة، ودار عمّك منصور طاحتْ، وعمّك حيدر، وعمّك إسماعيل، وابن عمّك زكي، وابن خالتك أبو حسن، ودار ابن العمّ أبو رامي، وابن العمّ أمين زويد، كلّها طاحت، ودار أخوك محمد فيها قذايف، ودار ودار... ". كلّ هذه الأهوال من خمس إلى ستّ دقائق من القصف العشوائي المتواصل على حارة كاملة في الأيام الأُولى من دخول رفح.
يريدون طردنا من بيوتنا وهُم لممٌ من أصقاع الدنيا
ثمَّ تأتي فاجعة أُخرى من استشهاد أبناء العمومة، أبناء عوّاد الشاعر، ثلاثة شباب إخوه وعمّهم جلال الشاعر أيضاً، وهناك مفقودون لا نعرفُ مصيرهم. يستشهدُ هؤلاء الشبّان لأنّهم كانوا يريدون أن يتفقّدوا مصائر بيوتهم المهدَّمة وينقذوا ما يمكن إنقاذه من بيوتهم لتساعدهم في رحلة العذاب الجديدة في أماكن لجوئهم في منطقة المواصي.
ويستمرّ شريط المأساة مع الخبر اللاحق: "ثمانون بالمائة من الحارة طاحت"، هذه آخر نسبة وردت من ابن أخي.
إنّ من يعرف هذه الحارة الكبيرة وعمائرها وعزّة أهلها في ما شيّدوه من بنايات جميلة، غالباً ما تكون قريبةً من حقول زيتون أو حمضيات، أو شجرة نخيل هنا وهناك، يُصاب بالدوار من حجم المأساة وتواليها.
يقول الطفل الذي كان يسرح في هذه الحقول في مواسم الحصاد وغيرها: "كيف حال الأشجار والنباتات في الحقول وهي مسرح بارود وحمم صواريخ تُرمى عليها ليل نهار؟ كيف حال الديوك والقطط والكلاب التي كانت تسرح وتمرح في الحارة؟ هل ما زالت هناك طيور الكركز، والخدادر والحساسين؟ ما تبقّى هناك من المخلوقات التي تغنّي نهاراً؟ هل خَفتَ هديلُ الحمام الذي يعطي خلفية رائعة لنوم الظهيرة؟ كيف حال النجوم وهي تتلألأ في السماء؟ هل حجبها الدخان؟ هل مات الهدوء أيضاً في هذه المنطقة التي تُسمّى حيَّ السلام، وهو حيٌ كبير نسبياً يمتدُّ من معبر رفح حتى منطقة البرازيل؟ هل تندبُ حظّها؟ لكلّ شيء من اسمه نصيب. أين حظّكَ الآن يا حيَّ السلام؟
هذه أسئلة يطرحها كلُّ أهالي غزّة عن حاراتهم وبيوتهم، وهم أهلُ حياة، وجوههم وهُم يدبكون في أعراسهم، وهُم يخشعون في صلواتهم، وهُم يضربون أعداءهم، وهُم يصنعون المعجزات بأجسادهم النحيلة ووجوههم العالية، وبلاغة أطفالهم وهُم يدقّون الطبل، يرقصون وينكّتون، وهُم يخافون، وهُم يشعلون في أجسادنا الدموع والحسرات خوفاً عليهم.
سأبتذلُ لو قلت: متى سيعود السلام إلى ”حيّ السلام؟"، فذاك سؤالٌ يسأله كلُ أهل غزّة.
تبتعد الآفاق عنّا، وتدبّ بنا الحيرة بعد فقدان الأحبة، والشوق للأهل والخوف عليهم، وخراب البيوت.
أرى لهيباً من نار يصدر من صدر الدبّابات التي يستهدفها المقاومون. هل هذا لهيب أمل؟ إنّه السؤال. هل هذا مصدر الأمل الوحيد في هذا الظلام الدامس؟
حيّ السلام، لا تسعفني البلاغة لأنّك قريبٌ منّي، أقرب ممّا أرى لأقول، وأبعد ممّا أقول لأرى، وإنّي موزَّعٌ بين مزارعك وبيوتك وشوارعك وكلام رجالك وقصص نسائك، والمواقف مع أطفالك، والكرة على أرجل شبابك وهي تُركل للأعالي وتعود على صدر يصوّبها نحو المرمى، وموسم قطف الزيتون الأخضر والأسود، وغداء السمك في بيت أخي عادل أبو عبد الله وزوجته الرائعة نجوى أمّ عبد الله، وصدى أذان الفجر بصوت خالي عوّاد الشاعر، وأذان الظهر الصاعد من روح ابن أخي خالد الشاعر: "حيَّ على الصلاة… حيَّ على الفلاح… الله أكبر… الله أكبر".
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن