ثمّة رموز في الثقافة والمعرفة العربية يمكن تعريفها بعبارة "يقرأها قليلون ويعرفها كثيرون" مثل كلاسيكيات الثقافة العربية؛ كتاب ألف ليلة وليلة، مثلاً، ومؤلّفات الفلاسفة العرب، ابن رشد وابن الهيثم والكندي، وغيرهم. لا ينطبق هذا الأمر مثلاً على روايات نجيب محفوظ (قرأه كثيرون ويعرفه كثيرون، أيضاً). وعالمياً، لا تنطبق المقولة على غابريل غارسيا ماركيز، المعروف والمقروء كثيراً، ولكن، يمكن أن تنطبق على مؤلفات دانتي وهوميروس على سبيل المثال.
يدخل طه حسين (1889 - 1973)، في هذه الفئة بامتياز، أي فئة من يعرفهم كثيرون ويقرأهم قليلون، وذلك بسبب الجدل الذي ساد حياته، والمعارك الموصوفة، التي خاضها التنويري العربي المعروف، وسجالات لا تقف عند حدٍّ ما زال تأثيرها واضحاً. ولكن، كم واحد منّا اجتهد لقراءة تراث طه حسين أو حتّى نصفه؟ ربّما يكتفي معظمنا بمذكّراته "الأيام" (1929)، وتكملتها السيرة الروائية "أديب"، التي تسرد تفاصيل سفره إلى أوروبا للدراسة، بينما ثلاثية "الأيام" كانت عن حياته وطفولته وصراعه المرير في طريق العمى. يمكن إضافة، أيضاً، كتابه الجدلي "في الشعر الجاهلي" (1925)، وكاتب هذه السطور أحد المُقصّرين في قراءة أعمال عميد الأدب العربي. نعلم أنّه كتب في كلّ شيء، كما تُدلّل عناوين كتبه، ويقال، كذلك، إنّ لديه كتباً لا نعرفها مثل أطروحته بالفرنسية عن ابن خلدون. ولكنّنا نقف عند أشهرها؛ "الفتنة الكبرى" (1953)، و"مستقبل الثقافة في مصر" (1938)، و"مع أبي العلاء في سجنه" (1944). من كتبه المجهولة، أيضاً رواية واقعية "شجرة البؤس"، ولا تُنسى مقالاته المُهمّة والكثيرة، في مثل كتابه "من أدب التمثيل الغربي".
طه حسين قارئ موسوعي كبير يكاد لا يفوته شيء. أتذكّر أنّي لقيت مرّة كتاباً بالياً في سوق قديم بسويقة الرباط، وحجمه قصير أشبه بكرّاس، قرأته في القطار إلى فاس. كان كتاب مقالات لطه حسين، ولكنّي انبهرت حين قرأت ضمنه مقالاً عن نيكوس كازانتزاكيس، كان طه حسين قد قرأه بالفرنسية قبل أن نقرأه فيما بعد بالعربية، ونتهافت على رواياته، ونشغف بكتاب مذكّراته "التقرير إلى غريكو" (ترجمة ممدوح عدوان، الجندي للطباعة والنشر، دمشق، 2007). ومن الذكريات حول عميد الأدب العربي، ولا بدّ أن لكلّ قارئ ذكرياته أيضاً في هذا السياق، أنّي كنت مرّة في زيارة عمل إلى كلّية التربية بصحار، وفي مسرح الكلّية المسائي ألقيتُ محاضرةً عن طه حسين، ولكّن الجدل كاد أن يتحوّل معركةً بالألسن بين المُحاضر ومُدرّس مُتعصّب من الجمهور ضدّ طه حسين. تدخّل بعض الحاضرين للحدّ من الجدل، خوفاً من أن يتحوّل مُقدّمات عراك ليس مسرحُ الكلّية الحلبةَ المناسبةَ له. وحين التحقتُ، لاحقاً، للدراسة في كلّية منوبة بتونس، كان طه حسين سيّد الموقف في فصول التدريس هناك، لا يضاهيه سوى أدونيس، من خلال الجدل بشأن كتابه "الثابت والمتحول" (1973).
لا نعرف عدد الأطاريح التي دبجت عن طه حسين، وهي كبيرة بما لا يقاس. ومن مختلف الجنسيات. حضرت مرّة في التسعينيات مناقشةَ رسالةِ ماجستر في كلية الآداب بالرباط لزميل كوري جنوبي اسمُه العربي خالد، وكانت رسالته عن طه حسين، وكان رئيس لجنة المناقشة الأكاديمي والشاعر محمد بنّيس. بينما المُشرف على الرسالة كان أستاذنا الراحل إدريس بلمليح، رحمه الله. حيّا بنّيس في الطالب الآسيوي اختياره طه حسين، وأتذكّر مما قاله إنّ (الباحث) أعاد إلينا طه حسين في وقت نحن في أشدّ الحاجة إليه. لا يمكن أن تمرّ ذكرى رحيل أو ولادة عميد الأدب العربي مرور الكرام. لا بدّ من وقفات واستعادات. لا بدّ، أيضاً، من كتابات، ولكنّ معظمها، وهذا ما أظنه، تقف عند حدود كتبه المعروفة.
ما نحتاجه أكثر في هذا الزمن هو تدويل طه حسين وتأميمه وتدويره، أن تكون كتاباته حاضرة في زمننا عبر المناهج الدراسية بشكل أساسي، وعبر إعادة طباعتها بمواصفات عصرية.
طه حسين، الذي يُعلّمنا، أيضاً، الكتابة والأسلوب الأنيق والعبارات المُختصرة الذاهبة مباشرة إلى معانيها، يُعرف عنه، مثلاً، أنّه يتجنّب في أسلوبه التكرار والإطناب، بل يبتعد قدر الإمكان حتّى عن الأسماء الموصولة "الذي" و"التي" وما شابههما. ذائقته في الكتابة لا توازيها سوى ذائقته في القراءة، ما يدلّل على تأسيس لغوي صلب، ثم انفتاح قرائي غير محدود، وبأكثر من لغة حيّة.
يدخل طه حسين (1889 - 1973)، في هذه الفئة بامتياز، أي فئة من يعرفهم كثيرون ويقرأهم قليلون، وذلك بسبب الجدل الذي ساد حياته، والمعارك الموصوفة، التي خاضها التنويري العربي المعروف، وسجالات لا تقف عند حدٍّ ما زال تأثيرها واضحاً. ولكن، كم واحد منّا اجتهد لقراءة تراث طه حسين أو حتّى نصفه؟ ربّما يكتفي معظمنا بمذكّراته "الأيام" (1929)، وتكملتها السيرة الروائية "أديب"، التي تسرد تفاصيل سفره إلى أوروبا للدراسة، بينما ثلاثية "الأيام" كانت عن حياته وطفولته وصراعه المرير في طريق العمى. يمكن إضافة، أيضاً، كتابه الجدلي "في الشعر الجاهلي" (1925)، وكاتب هذه السطور أحد المُقصّرين في قراءة أعمال عميد الأدب العربي. نعلم أنّه كتب في كلّ شيء، كما تُدلّل عناوين كتبه، ويقال، كذلك، إنّ لديه كتباً لا نعرفها مثل أطروحته بالفرنسية عن ابن خلدون. ولكنّنا نقف عند أشهرها؛ "الفتنة الكبرى" (1953)، و"مستقبل الثقافة في مصر" (1938)، و"مع أبي العلاء في سجنه" (1944). من كتبه المجهولة، أيضاً رواية واقعية "شجرة البؤس"، ولا تُنسى مقالاته المُهمّة والكثيرة، في مثل كتابه "من أدب التمثيل الغربي".
طه حسين قارئ موسوعي كبير يكاد لا يفوته شيء. أتذكّر أنّي لقيت مرّة كتاباً بالياً في سوق قديم بسويقة الرباط، وحجمه قصير أشبه بكرّاس، قرأته في القطار إلى فاس. كان كتاب مقالات لطه حسين، ولكنّي انبهرت حين قرأت ضمنه مقالاً عن نيكوس كازانتزاكيس، كان طه حسين قد قرأه بالفرنسية قبل أن نقرأه فيما بعد بالعربية، ونتهافت على رواياته، ونشغف بكتاب مذكّراته "التقرير إلى غريكو" (ترجمة ممدوح عدوان، الجندي للطباعة والنشر، دمشق، 2007). ومن الذكريات حول عميد الأدب العربي، ولا بدّ أن لكلّ قارئ ذكرياته أيضاً في هذا السياق، أنّي كنت مرّة في زيارة عمل إلى كلّية التربية بصحار، وفي مسرح الكلّية المسائي ألقيتُ محاضرةً عن طه حسين، ولكّن الجدل كاد أن يتحوّل معركةً بالألسن بين المُحاضر ومُدرّس مُتعصّب من الجمهور ضدّ طه حسين. تدخّل بعض الحاضرين للحدّ من الجدل، خوفاً من أن يتحوّل مُقدّمات عراك ليس مسرحُ الكلّية الحلبةَ المناسبةَ له. وحين التحقتُ، لاحقاً، للدراسة في كلّية منوبة بتونس، كان طه حسين سيّد الموقف في فصول التدريس هناك، لا يضاهيه سوى أدونيس، من خلال الجدل بشأن كتابه "الثابت والمتحول" (1973).
لا نعرف عدد الأطاريح التي دبجت عن طه حسين، وهي كبيرة بما لا يقاس. ومن مختلف الجنسيات. حضرت مرّة في التسعينيات مناقشةَ رسالةِ ماجستر في كلية الآداب بالرباط لزميل كوري جنوبي اسمُه العربي خالد، وكانت رسالته عن طه حسين، وكان رئيس لجنة المناقشة الأكاديمي والشاعر محمد بنّيس. بينما المُشرف على الرسالة كان أستاذنا الراحل إدريس بلمليح، رحمه الله. حيّا بنّيس في الطالب الآسيوي اختياره طه حسين، وأتذكّر مما قاله إنّ (الباحث) أعاد إلينا طه حسين في وقت نحن في أشدّ الحاجة إليه. لا يمكن أن تمرّ ذكرى رحيل أو ولادة عميد الأدب العربي مرور الكرام. لا بدّ من وقفات واستعادات. لا بدّ، أيضاً، من كتابات، ولكنّ معظمها، وهذا ما أظنه، تقف عند حدود كتبه المعروفة.
ما نحتاجه أكثر في هذا الزمن هو تدويل طه حسين وتأميمه وتدويره، أن تكون كتاباته حاضرة في زمننا عبر المناهج الدراسية بشكل أساسي، وعبر إعادة طباعتها بمواصفات عصرية.
طه حسين، الذي يُعلّمنا، أيضاً، الكتابة والأسلوب الأنيق والعبارات المُختصرة الذاهبة مباشرة إلى معانيها، يُعرف عنه، مثلاً، أنّه يتجنّب في أسلوبه التكرار والإطناب، بل يبتعد قدر الإمكان حتّى عن الأسماء الموصولة "الذي" و"التي" وما شابههما. ذائقته في الكتابة لا توازيها سوى ذائقته في القراءة، ما يدلّل على تأسيس لغوي صلب، ثم انفتاح قرائي غير محدود، وبأكثر من لغة حيّة.