"لكلّ طاولة حكاية" لغيلان الصفدي: الخطّ والأصل

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع helper
  • تاريخ البدء تاريخ البدء
طباعة الموضوع
  • بادئ الموضوع
  • المشرف
معرض "لكلّ طاولة حكاية" للتشكيلي السوري غيلان الصفدي في "غاليري آرت أون 56" ببيروت، معرضٌ له أيضاً حكايته. للصفدي في معرضيه الأخيرين، ليس فقط الأسلوب نفسه، بل الموضوع الذي يبني عليه أيضاً. الموضوع، كما هو في المعرض لا يزال كما هو، إنّه الجمهرة (إذا جازت التسمية)، جمهرة من أشخاص من حيث المبدأ، من أشخاص في الأساس.

لكن الصفدي (1977)، في معرضه الذي أُقيم مؤخّراً، لا يجمع رؤوساً وجذوعاً بشرية فقط، بل يحشر بينها أغراضاً شتّى، أشياء وحيوانات ونبتات، تتساوق كلّها مع الرؤوس والجذوع، بل تبدو من بعيد مثلها. هي أيضاً تندغم في هذه الجمهرة، التي تملأ اللوحة برؤوس تظلّ تتضاءل كلّما تراجعت إلى أعلى اللوحة.

الآن يغلب اللون، وإن بقي إلى مرحلة الأبيض والأسود أثرٌ واضح

إذا تمعنّا في هذه الرؤوس، بوصفها العنصر الأساس، فسنجد أنّ لكلّ منها حكايته، طاقيات وقبّعات وأقنعة وتعابير متفاوتة من رأس إلى رأس. الوجوه تنقل أيضاً، واحداً بعد الآخر، نظرته الخاصّة وتعبيره الخاصّ. تعابير ملعوبة بقدر من الغرابة التي تمتّ، في وضعيتها وملامحها البرّية والقاسية، إلى ما يشبه الكاريكاتير.


لكلّ من هذه الوجوه عنوانه وقصّته، لكلّ منها هيئته الخاصّة وإيماؤه وحركته. هكذا، من عشرات الرؤوس المتلاحقة المتقاطعة التي تملأ اللوحة، نعثر على مئات القصص التي تُحوّل اللوحة إلى جدارية عامرة، إلى حشد لا يبقى بشرياً، بل تندمج فيه أشياء وحيوات شتّى.

نحن هكذا أمام بروفا ملحمية، أمام حكايا وقصص وأوضاع مدينية. ثمّة مدينة كاملة مطروشة على الصفحة، كان هذا، في معارض أُخرى، موضوع الصفدي الذي لا يزال مخيِّماً وملهماً. إذا كان هناك من فرق بين معرض وآخر، فهو أنّ هذه الجمهرة كانت عشق الصفدي وموضوع تخطيطه ورسمه بالأسود والأبيض. الآن يغلب اللون، وإن بقي إلى مرحلة الأبيض والأسود أثر واضح، هناك الجمهرة نفسها برؤوس كبيرة أو أصغر، هناك شريط يمتدّ على طول الجدار تبدو فيه الجمهرة وهي تسيل من لوحة إلى أُخرى، تتكوكب وتتداخل وتمتدّ تخطيطاتها فوق الحائط كلّه.

لا يمكننا، إزاء ذلك، إلّا أن نشعر بأنّ ثمّة حياةً عارمة، بل خليطاً من حيوات لا تزال تتنفّس وتضجّ وتتقاطع. إنّنا هكذا أمام أبجدية أُخرى بالخطّ، تتحوّل معه اللوحة إلى نصّ واحد. هناك هذه الحياة الجامعة والقصّة السيّالة، القصّة التي هي على حدود الأسطورة والملحمة. لكن جديد الصفدي في هذا المعرض ليس بدون أهمية.


الصفدي الآن لا يكتفي بالأسود والأبيض، إنّه الآن يُلوّن. نحن، هذه المرّة أمام ملوّنة تغري الفنان، بأن يضع باللون رؤوس جمهرته وتفصيل قسماتها، وإخراج التعابير على وجوهها. إنّنا هكذا أمام لوحة بالألوان، لكن اللون يقترح على الفنّان، ربّما، معالجة أكثر تفصيلية وانتظاماً. كلّ رأس هكذا يملك أكثر فأكثر تعبيره الخاصّ، اللون يضيف إلى تعبيره، يضيف أكثر إلى قصّته. باللون تملك الرؤوس حياة إضافية، تملك قدرة أكبر على الحكاية.

لكن الرؤوس، وهي تتلاحق وتتقاطع على الصفحة الواحدة، تبدو بعضها إزاء بعض ذات نسق من دوائر، من تبقيعات متداخلة على عرض اللوحة وطولها. يمكننا عندئذ أن نفكّر أنّها، في هذا الانتظام والتقاطع، تبدو صفحةً من دوائر وبقع. يجعلنا هذا نفكّر، ولو من بعيد، في نوع من تبقيعية أو تنقيطية بأحجام أكبر. تبدو هذه الدوائر وكأنّها تتضاءل كلّما صعدت إلى أعلى الصفحة، بحيث تنتهي الصفحة وهي لا تزال تصعد وتصغر. هكذا نشعر أنّها تتواصل خارج الصفحة وتستمرّ بعدها.

الملوّنة تضيف بالطبع، إنها تُكسب اللوحة زخماً وحكاية أكبر، لكنّنا لا نزال نشعر أنّها تقع على تخطيط أو تصميم هو نفسه الذي للوحة الأسود والأبيض. لا نزال نشعر أنّ تحت اللوحة الملوّنة، هناك الرسم والتخطيط السابق. اللون هكذا ليس أصل اللوحة، التخطيط والرسم هما الأصل، بل كأنّ اللوحة تقع على تخطيط ما، على النسخة الأُولى بالأسود والأبيض. إنّنا باللون نواصل الحكاية التي بدأت بالرسم والخطّ. حين يكون اللون، على سبيل المثال، فاتحاً زهياً، فإنّ هذا يُغيّر من نسق الحكاية. اللون هكذا، يجسّم ويضيف إلى حكاية في أصلها الأسود والأبيض.


* شاعر وروائي من لبنان

%D8%BA%D9%8A%D9%84%D8%A7%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D8%AF%D9%8A%201%20-%20%D9%84%D9%84%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B9-%20Copie.jpg
 
  • Google Adsense
    إعلانات Google