تُنْضِجُنا تجارب العمر كما لا تفعل النار، ذلك أنّها تتجاوز قدرة النار على الإنضاج بمراحل، من دون أن نستشعر وجع اللسعة مباشرة. في هدوء تنساب التجربة بين تضاعيف الحياة فلا نكاد نراها إلا بعد أن تتركَ أثرَها الذي لا يزول، ولا يُرَى، كأثر فراشة.
نعود بعد أن نقطع شوطاً في رحلة النضوج إلى البدايات الأولى، ونُحاول أن نتعرّف ما كنّا عليه. نحاول وننجح ونفشل، لكنّنا لا نملّ من تكرار المحاولة تحت وطأة الشعور بالحاجة إلى تكرار التجربة، مُسلّحين بدروسها المُبكّرة، وبعيون نحاول أن نبقيها مفتوحةً على اتساعها لترى كلّ ما لم تره في المرّة الأولى.
نعود لإعادة الاكتشاف، وللإحاطة بالتفاصيل، وللتعرّف مجدّداً إلى كلّ شيء عشناه وذقناه وسمعناه وتلمّسناه وشعرنا به. إلى الفِكَرِ والمشاعرِ والذكرياتِ، وإلى البشرِ والأمكنةِ، وإلى الأمواجِ والرياحِ، وإلى الأغنياتِ والحكاياتِ والقصائدِ والكلماتِ. وإلى الدموع، أيضاً، وطعمها المالح.
نعود إلينا.. إلى ما كنّا عليه، إلى ما تغيّر وما لم يتغيّر فينا، إلى ما ذهب وما بقي، وإلى ما كنّا نراه مع سبق الرغبة والإصرار والترصّد، والمضي حتَّى النهاية، وما كنّا نتغاضى عن رؤيته ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
نعود إلى ما كنّا نقوله أو نكتبه للمراجعة بعد مرحلة النضج أو ما نعتقد أنّه النضج. ونتساءل إن كانت هناك نقطة نهاية أو محطّة أخيرة ترفع لافتة نهاية رحلة النضج فعلاً، أم أنّ الرحلة سرمديّةٌ، وأحياناً، دائرية؟ هل نعود أحياناً إلى نقطة البدء في رحلتنا السرمدية الدائرية من دون أن نشعر أنّنا نفعلها بمنتهى الوعي، باعتبارها قراراً لا بدّ منه؟
في رحلتي الطويلة، حتَّى الآن، كثير من هذه المراجعات، وخصوصاً في خضمّ الكتابة والشعر. أكتبُ كثيراً كما لو أنّني أنتقم لنفسي من شعوري بالغياب. أكتب لأنّ الكتابة في واحدة من معانيها، الأثيرة لديّ، هي ذاكرة مستقلّة أستطيع أن أبنيها بنفسي لنفسي من دون أن أضطر لبذل كثير من الجهد في سبيل الاحتفاظ بها. أكتب لأنّها وسيلة من وسائل البقاء على سبيل الحياة، في ذاكرة جيّدة وشغفٍ غير متناهٍ بالحياة. وأكتب، أيضاً، لأنّ الكتابة تعينني على الاحتفاظ بذاكرتي الحقيقية. أتذكّر من خلالها الناس الذين قابلتهم وتعرّفت إليهم أو أولئك الذين عبروا سريعاً أمامي يوماً ما، أو حتَّى أولئك الذين قرّروا أن يغيبوا واجتهدوا ليمحوا كلّ آثارهم قبل الرحيل. وأتذكّر كلّ العلاقات التي اشتبكت فيها سريعة أو طويلة. وأتذكّر كلّ المشاهد والشوارع والبلدان والسماوات الملبّدة بالدموع.. أتذكر دموعي بعدد الكلمات، وضحكاتي المتوارية خلف السطور أيضاً.
ولأنّني، لحسن الحظّ، أحتفظ بأرشيفي في الكتابة كاملاً تقريباً، فدائماً أعود إليه كالغريبة الضائعة التي أحسن إليها الحظّ، فجأةً، بإشارات واضحة في الطريق. أعود إليه لأفتّش بين أضابيره المُثقَلَةِ بما هو ضروري وغير ضروري، عن أفكاري القديمة التي سطّرتُها في المقالات.. رحلة طويلة من الكتابة المنشورة وغير المنشورة. بين سطورها تكمن أسرار الحكايات وظروفها، ويكمن شغفي فيها أيضاً.
أعود كلّما اجتاحني شعور بالخذلان مما أواجهه راهناً، فأجدني في مهمّة اضطرارية طارئة للفرز بين الضروري وغير الضروري من المحتويات، مهمّة للتشذيب والتهذيب والتخفيف من ترهّل الورق والكلمات، فأكتشف صعوبة المهمّة، بل واستحالتها في كلّ المفاصل. وحتَّى لا أعلن فشلي فيها، أمام نفسي على الأقلّ، أتّخذ القرار السهل، والذي لطالما اتّخذته؛ التأجيل حتَّى حين، أي حتَّى أستعيد قدرتي على الفرز الصحيح بين ما هو ضروري وما هو غير ضروري.
وربّما لن يأتي ذلك الحين المُعيّن أبداً (!)
نعود بعد أن نقطع شوطاً في رحلة النضوج إلى البدايات الأولى، ونُحاول أن نتعرّف ما كنّا عليه. نحاول وننجح ونفشل، لكنّنا لا نملّ من تكرار المحاولة تحت وطأة الشعور بالحاجة إلى تكرار التجربة، مُسلّحين بدروسها المُبكّرة، وبعيون نحاول أن نبقيها مفتوحةً على اتساعها لترى كلّ ما لم تره في المرّة الأولى.
نعود لإعادة الاكتشاف، وللإحاطة بالتفاصيل، وللتعرّف مجدّداً إلى كلّ شيء عشناه وذقناه وسمعناه وتلمّسناه وشعرنا به. إلى الفِكَرِ والمشاعرِ والذكرياتِ، وإلى البشرِ والأمكنةِ، وإلى الأمواجِ والرياحِ، وإلى الأغنياتِ والحكاياتِ والقصائدِ والكلماتِ. وإلى الدموع، أيضاً، وطعمها المالح.
نعود إلينا.. إلى ما كنّا عليه، إلى ما تغيّر وما لم يتغيّر فينا، إلى ما ذهب وما بقي، وإلى ما كنّا نراه مع سبق الرغبة والإصرار والترصّد، والمضي حتَّى النهاية، وما كنّا نتغاضى عن رؤيته ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
نعود إلى ما كنّا نقوله أو نكتبه للمراجعة بعد مرحلة النضج أو ما نعتقد أنّه النضج. ونتساءل إن كانت هناك نقطة نهاية أو محطّة أخيرة ترفع لافتة نهاية رحلة النضج فعلاً، أم أنّ الرحلة سرمديّةٌ، وأحياناً، دائرية؟ هل نعود أحياناً إلى نقطة البدء في رحلتنا السرمدية الدائرية من دون أن نشعر أنّنا نفعلها بمنتهى الوعي، باعتبارها قراراً لا بدّ منه؟
في رحلتي الطويلة، حتَّى الآن، كثير من هذه المراجعات، وخصوصاً في خضمّ الكتابة والشعر. أكتبُ كثيراً كما لو أنّني أنتقم لنفسي من شعوري بالغياب. أكتب لأنّ الكتابة في واحدة من معانيها، الأثيرة لديّ، هي ذاكرة مستقلّة أستطيع أن أبنيها بنفسي لنفسي من دون أن أضطر لبذل كثير من الجهد في سبيل الاحتفاظ بها. أكتب لأنّها وسيلة من وسائل البقاء على سبيل الحياة، في ذاكرة جيّدة وشغفٍ غير متناهٍ بالحياة. وأكتب، أيضاً، لأنّ الكتابة تعينني على الاحتفاظ بذاكرتي الحقيقية. أتذكّر من خلالها الناس الذين قابلتهم وتعرّفت إليهم أو أولئك الذين عبروا سريعاً أمامي يوماً ما، أو حتَّى أولئك الذين قرّروا أن يغيبوا واجتهدوا ليمحوا كلّ آثارهم قبل الرحيل. وأتذكّر كلّ العلاقات التي اشتبكت فيها سريعة أو طويلة. وأتذكّر كلّ المشاهد والشوارع والبلدان والسماوات الملبّدة بالدموع.. أتذكر دموعي بعدد الكلمات، وضحكاتي المتوارية خلف السطور أيضاً.
ولأنّني، لحسن الحظّ، أحتفظ بأرشيفي في الكتابة كاملاً تقريباً، فدائماً أعود إليه كالغريبة الضائعة التي أحسن إليها الحظّ، فجأةً، بإشارات واضحة في الطريق. أعود إليه لأفتّش بين أضابيره المُثقَلَةِ بما هو ضروري وغير ضروري، عن أفكاري القديمة التي سطّرتُها في المقالات.. رحلة طويلة من الكتابة المنشورة وغير المنشورة. بين سطورها تكمن أسرار الحكايات وظروفها، ويكمن شغفي فيها أيضاً.
أعود كلّما اجتاحني شعور بالخذلان مما أواجهه راهناً، فأجدني في مهمّة اضطرارية طارئة للفرز بين الضروري وغير الضروري من المحتويات، مهمّة للتشذيب والتهذيب والتخفيف من ترهّل الورق والكلمات، فأكتشف صعوبة المهمّة، بل واستحالتها في كلّ المفاصل. وحتَّى لا أعلن فشلي فيها، أمام نفسي على الأقلّ، أتّخذ القرار السهل، والذي لطالما اتّخذته؛ التأجيل حتَّى حين، أي حتَّى أستعيد قدرتي على الفرز الصحيح بين ما هو ضروري وما هو غير ضروري.
وربّما لن يأتي ذلك الحين المُعيّن أبداً (!)