في دفقٍ شعري تنسجه التأملات والنظرات الكاشفة لواقع محتشد بالتساؤلات والإبهام، يكتب نوّاف رضوان: "أنا نِتاجُ سلاحفِ الحكمةِ البطيئة/ وخيباتِ الأمل/ وخيبةُ الأمل؛ حقيبةُ ظهرٍ مليئة بالصخور. خرجتُ من رحمٍ يلوكُ الحجارة المقدّسة، والنكات البذيئة/ ونجوتُ/ نجوتُ بالضّحك الحرام/ واللغةِ الحرام/ والمسّ الحرام".
يؤسّس الشاعر والكاتب الفلسطيني نصّه على صورةٍ مبتكرٍة قادمةٍ من عوالم كابوسية وزمن شيّدته الهزائم والانكسارات ورغباتٌ مكبوتة للخروج عن سائدٍ اجتماعيّ وثقافي وسياسي، وفي الكتابة أيضاً، حيث لا تنتظم اللغة في اختيار المفردات واتساق مبناها، جانحةً إلى غرابة الدلالة واغتراب المعنى.
نصوص شعرية تمتزج بالسرد في كتاب رضوان الذي صدر عن "منشورات الغرفة" بعنوان "حفلة الديك"، في وصف لرحلة متعدّدة المستويات تختبر مجموعة مفاهيم وأفكار، متحرّرة من أية مرجعيات وأحكام مسبقة حول العلاقة مع الوطن والهوية والعائلة واللغة والآخر.
وينتقل في مواجهته للعالم بين العام والخاص، بلا حدود تفصل بين شؤونه الذاتية والعائلية وتفاصيله اليومية وثرثراته مع الأصدقاء وبين تعليقاته على أحداث سياسية أو خلاصات معرفية أو قضايا كبرى، فيدوّن في أحد المقاطع: "لي لغةٌ يسكُنُها التوحّش/ تحت جلدِ القبيلة/ والقبيلةُ عُصْعُصٌ في مشارحِ الأنثروبولوجيا البيضاء/ ونجوتُ من نَفْسي/ لكنّها لم تنجُ منّي".
يفتتح رضوان كتابه بسرد تفاصيل عودة الراوي/ البطل إلى المنزل في مدينة حيفا في أجواء فانتازية، منذ أن توقّف سائق التاكسي وأشار بيده إلى نافذة مضاءة في الطابق العلوي بأن العائلة تنتظره في الداخل، لينزل الراوي رغم أنه لم يتعرّف إلى المكان، إلا أنه شاهَد أمّه وأباه يبتسمان، وحين حاول أن يدخل العمارة وجد الأبواب موصدةً، كما رفضت والدته أن تُدخله ما لم يُرها كفن والده، ففتح حقيبته باحثاً عن ذلك الكفن فلم يعثر إلّا على بطاريات قديمةٍ متحلّلة، ثم غاب وجه أمّه.
يواصل رضوان سرده باقتفاء ثيمة قديمة جديدة بمصادفته نساءً يعرفهنّ دون أن يتعرفّن إليه أو يتبادلن معه الحديث أو تواصلاً مفهوماً، فبعد أن يغادر منزل العائلة متوجّهاً إلى "نُزل السعادة" الذي تديره سيدة تشبه جدّته، لكنها ستتجاهل تودُّده إليها، وتتحدّث معه باللغة العبرية وبلكنة رسمية، ويتتابع السرد بأحداث غرائبية، فالدرجات تنهار تحت رجليه وسط ضباب كثيف وعربة أطفال تنزلق نحو الحافّة وتسقط، فيما أمّه جالسة وسط خالاته ويضحكن بهستيريا عليه!
يحضر الشعر بعد حكاية مبعثرةٍ مليئة بالعبث والجنون، في زمن متفلّت تعود ذاكرته إلى ستّة وسبعين سنة مضت، متنقّلاً بين الوطن والمنفى، حيث يكتب: "أكتبُ عن جدّي أمام تلفزيونه المربّع الصغير/ يشاهدُ الكوباكابانا، وخليج المايا في تايْلند/ وشواطئ وايت هافن في أستراليا/ ويحكي عن الأشجار الهاربة من المجزرة عام 1948/ وكيف هجَم المستوطنون على غنماته المطمئنّة/ فجفّتْ ضروعها من الخوف".
وفي موضعٍ آخر، يقول: "أكتبُ عن ألمانيا المكتئبة/ لكي أصبح ألمانيّاً، أحتاجُ إلى: دراجة هوائية وكلبٍ أعمى وإحساس شديد بالذنب"، في إشارة إلى تهمة "معاداة السامية" التي تُرعب الألمان وتخرسهم عن أيّ نقد يمكن أن يوجّه إلى "إسرائيل".
يسجّل رضوان مزيداً من المفارقات في كتابه مسترسلاً في قصّ عوالمه الكابوسية، وواقعه الذي لا يستقيم مع كلّ هذه الفوضى والخروجات عن المنطق والأزمات التي تعصف باللحظة الراهنة بما يثقلها من ماضٍ ويشوّش فهم الآتي، ومنها "بنى أبي نصف تل أبيب، والنصف الآخر بناه أعمامي. دخلوا من الضفة الغربية إلى إسرائيل قبل 35 عاماً، بمسطريناتهم التي تلمع تحت الشمس الحارقة، كانوا يغنّون الدلعونا ويضحكون..".
يتواصل سرد قصة والد المؤلّف، الذي درس الكيمياء وعمل في الدهان والبناء في كيان الاحتلال بدون تصريح عمل؛ وضع يستدعي الهرب من ملاحقات الشرطة، وحالة من القلق الدائم، حتى مات بخطأ طبّي غير مقصود في مستشفى "إيخلوف" في تل أبيب أو هكذا تمّ إخبار عائلته، ليرحل بخطأ طبي صغير وثقب صغير في الرأس أنهى حياته، ما يعني أنّه قُتل برصاصة!
الكتاب الذي استهلّه بإهداء "إلى خالد، العزُّزني؛ أبي"، يتألّف من ثلاث حركات افتتح رضوان كلّاً منها بمدخل مستفزّ، وكان افتتاح الحركة الثانية بقوله: "بالنسبة إلى أبي، كانت الحياة مزحة ثقيلة الدم، وبالنسبة إلى أمّي، فهي تضحك منذ 56 عاماً"، وأتبعها بمقاطع شعرية عدّة يأتي في أوّلها: "الحريّةُ على الباب/ صرخَ أبي/ لا تفتحوا لها/ ألفُ شرطيّ يقفون وراءَها بهراواتهم الجميلة/ وقالتْ أمّي/ لكي لا يدخل الغبارُ يا بنيّ".
تحتلّ شخصية فلاديمير مساحة خاصة في السرد كونها ترتبط على نحو وثيق بحبكة العمل؛ مهاجر روسي يحرص على تأكيد يهوديّته ثم سرعان ما يتخلّى عنها وينفيها مطلقاً بمجرّد خسارته في لعبة القمار التي أدمنها، لكن كل ذلك لا يهمّ أحداً في كيان الاحتلال الذي يحتشد بأمثال "فلاديمير"، لتمضي حياته بلا معنى، حارساً لإحدى البنايات، لا يستمع أو ينتبه أو يلحظ المارّة من حوله.
يحاول فلاديمير جاهداً أن يتحوّل إلى "شلومو" والاندماج في المجتمع الجديد، بحسب الرواية التي تُوضّح أنه "أصبح يهودياً إسرائيلياً خالصاً، لا تستطيع تمييزه عن أيّ يهوديّ آخر، إلّا من خلال لكنته الروسية الثقيلة وأحاديثه المفكّكة ورائحة الفودكا التي تفوح منه طوال الليل والنهار مثل موسيقى بحيرة البجع"، بمعنى أدقّ أنه لم يعد قادراً على تذكّر ملامحه القديمة، إلى أن أتى الرابع من آذار/ مارس 2001 حين فجّر شاب فلسطيني جسده في المنطفة التي يحرسها فغاب عن الوعي. صحا فلاديمير لكنه أصيب بـ"تروما" لم يُشف منها، حيث اضطرب نومه إلى أن غفا يوماً فسُرق مسدّسه، ليحال إلى التحقيق بتهمة بيع مسدّسه لأحد الفلسطينيّين لكثرة علاقاته معهم في الحيّ، لينتهي السرد بعبارة مكثّفة: "أنا فلاديمير.. أنا من كانت حياته بأكملها مجرّد مزحة".
يختتم رضوان نصوصه المتفلّتة بمخاطبة إلى "أيّها القارئ الغريب/ أيّتها القارئة الغريبة"، مضيفاً: "هذا الكتاب لا يعبّر عن رأي أحد، ولا حتّى أنا. قد تقول هذه النصوص شيئاً ما، وقد لا تقول أيّ شيء! صدّقوني، لقد وصلتُ إلى هنا كما وصلتم، فتحتُ الباب، ودخلتُ الحفلةَ مثلكم تماماً، وحين أردتُ المغادرة، لم أجد باب الخروج".
يؤسّس الشاعر والكاتب الفلسطيني نصّه على صورةٍ مبتكرٍة قادمةٍ من عوالم كابوسية وزمن شيّدته الهزائم والانكسارات ورغباتٌ مكبوتة للخروج عن سائدٍ اجتماعيّ وثقافي وسياسي، وفي الكتابة أيضاً، حيث لا تنتظم اللغة في اختيار المفردات واتساق مبناها، جانحةً إلى غرابة الدلالة واغتراب المعنى.
نصوص شعرية تمتزج بالسرد في كتاب رضوان الذي صدر عن "منشورات الغرفة" بعنوان "حفلة الديك"، في وصف لرحلة متعدّدة المستويات تختبر مجموعة مفاهيم وأفكار، متحرّرة من أية مرجعيات وأحكام مسبقة حول العلاقة مع الوطن والهوية والعائلة واللغة والآخر.
صورٌ مبتكرة قادمةٍ من عوالم كابوسية وزمنٍ شيدته الهزائم
وينتقل في مواجهته للعالم بين العام والخاص، بلا حدود تفصل بين شؤونه الذاتية والعائلية وتفاصيله اليومية وثرثراته مع الأصدقاء وبين تعليقاته على أحداث سياسية أو خلاصات معرفية أو قضايا كبرى، فيدوّن في أحد المقاطع: "لي لغةٌ يسكُنُها التوحّش/ تحت جلدِ القبيلة/ والقبيلةُ عُصْعُصٌ في مشارحِ الأنثروبولوجيا البيضاء/ ونجوتُ من نَفْسي/ لكنّها لم تنجُ منّي".
يفتتح رضوان كتابه بسرد تفاصيل عودة الراوي/ البطل إلى المنزل في مدينة حيفا في أجواء فانتازية، منذ أن توقّف سائق التاكسي وأشار بيده إلى نافذة مضاءة في الطابق العلوي بأن العائلة تنتظره في الداخل، لينزل الراوي رغم أنه لم يتعرّف إلى المكان، إلا أنه شاهَد أمّه وأباه يبتسمان، وحين حاول أن يدخل العمارة وجد الأبواب موصدةً، كما رفضت والدته أن تُدخله ما لم يُرها كفن والده، ففتح حقيبته باحثاً عن ذلك الكفن فلم يعثر إلّا على بطاريات قديمةٍ متحلّلة، ثم غاب وجه أمّه.
يواصل رضوان سرده باقتفاء ثيمة قديمة جديدة بمصادفته نساءً يعرفهنّ دون أن يتعرفّن إليه أو يتبادلن معه الحديث أو تواصلاً مفهوماً، فبعد أن يغادر منزل العائلة متوجّهاً إلى "نُزل السعادة" الذي تديره سيدة تشبه جدّته، لكنها ستتجاهل تودُّده إليها، وتتحدّث معه باللغة العبرية وبلكنة رسمية، ويتتابع السرد بأحداث غرائبية، فالدرجات تنهار تحت رجليه وسط ضباب كثيف وعربة أطفال تنزلق نحو الحافّة وتسقط، فيما أمّه جالسة وسط خالاته ويضحكن بهستيريا عليه!
يحضر الشعر بعد حكاية مبعثرةٍ مليئة بالعبث والجنون، في زمن متفلّت تعود ذاكرته إلى ستّة وسبعين سنة مضت، متنقّلاً بين الوطن والمنفى، حيث يكتب: "أكتبُ عن جدّي أمام تلفزيونه المربّع الصغير/ يشاهدُ الكوباكابانا، وخليج المايا في تايْلند/ وشواطئ وايت هافن في أستراليا/ ويحكي عن الأشجار الهاربة من المجزرة عام 1948/ وكيف هجَم المستوطنون على غنماته المطمئنّة/ فجفّتْ ضروعها من الخوف".
وفي موضعٍ آخر، يقول: "أكتبُ عن ألمانيا المكتئبة/ لكي أصبح ألمانيّاً، أحتاجُ إلى: دراجة هوائية وكلبٍ أعمى وإحساس شديد بالذنب"، في إشارة إلى تهمة "معاداة السامية" التي تُرعب الألمان وتخرسهم عن أيّ نقد يمكن أن يوجّه إلى "إسرائيل".
يسجّل رضوان مزيداً من المفارقات في كتابه مسترسلاً في قصّ عوالمه الكابوسية، وواقعه الذي لا يستقيم مع كلّ هذه الفوضى والخروجات عن المنطق والأزمات التي تعصف باللحظة الراهنة بما يثقلها من ماضٍ ويشوّش فهم الآتي، ومنها "بنى أبي نصف تل أبيب، والنصف الآخر بناه أعمامي. دخلوا من الضفة الغربية إلى إسرائيل قبل 35 عاماً، بمسطريناتهم التي تلمع تحت الشمس الحارقة، كانوا يغنّون الدلعونا ويضحكون..".
يتواصل سرد قصة والد المؤلّف، الذي درس الكيمياء وعمل في الدهان والبناء في كيان الاحتلال بدون تصريح عمل؛ وضع يستدعي الهرب من ملاحقات الشرطة، وحالة من القلق الدائم، حتى مات بخطأ طبّي غير مقصود في مستشفى "إيخلوف" في تل أبيب أو هكذا تمّ إخبار عائلته، ليرحل بخطأ طبي صغير وثقب صغير في الرأس أنهى حياته، ما يعني أنّه قُتل برصاصة!
يختبر مفاهيم الهوية والعائلة واللغة متحرّراً من مرجعيات مسبقة
الكتاب الذي استهلّه بإهداء "إلى خالد، العزُّزني؛ أبي"، يتألّف من ثلاث حركات افتتح رضوان كلّاً منها بمدخل مستفزّ، وكان افتتاح الحركة الثانية بقوله: "بالنسبة إلى أبي، كانت الحياة مزحة ثقيلة الدم، وبالنسبة إلى أمّي، فهي تضحك منذ 56 عاماً"، وأتبعها بمقاطع شعرية عدّة يأتي في أوّلها: "الحريّةُ على الباب/ صرخَ أبي/ لا تفتحوا لها/ ألفُ شرطيّ يقفون وراءَها بهراواتهم الجميلة/ وقالتْ أمّي/ لكي لا يدخل الغبارُ يا بنيّ".
تحتلّ شخصية فلاديمير مساحة خاصة في السرد كونها ترتبط على نحو وثيق بحبكة العمل؛ مهاجر روسي يحرص على تأكيد يهوديّته ثم سرعان ما يتخلّى عنها وينفيها مطلقاً بمجرّد خسارته في لعبة القمار التي أدمنها، لكن كل ذلك لا يهمّ أحداً في كيان الاحتلال الذي يحتشد بأمثال "فلاديمير"، لتمضي حياته بلا معنى، حارساً لإحدى البنايات، لا يستمع أو ينتبه أو يلحظ المارّة من حوله.
يحاول فلاديمير جاهداً أن يتحوّل إلى "شلومو" والاندماج في المجتمع الجديد، بحسب الرواية التي تُوضّح أنه "أصبح يهودياً إسرائيلياً خالصاً، لا تستطيع تمييزه عن أيّ يهوديّ آخر، إلّا من خلال لكنته الروسية الثقيلة وأحاديثه المفكّكة ورائحة الفودكا التي تفوح منه طوال الليل والنهار مثل موسيقى بحيرة البجع"، بمعنى أدقّ أنه لم يعد قادراً على تذكّر ملامحه القديمة، إلى أن أتى الرابع من آذار/ مارس 2001 حين فجّر شاب فلسطيني جسده في المنطفة التي يحرسها فغاب عن الوعي. صحا فلاديمير لكنه أصيب بـ"تروما" لم يُشف منها، حيث اضطرب نومه إلى أن غفا يوماً فسُرق مسدّسه، ليحال إلى التحقيق بتهمة بيع مسدّسه لأحد الفلسطينيّين لكثرة علاقاته معهم في الحيّ، لينتهي السرد بعبارة مكثّفة: "أنا فلاديمير.. أنا من كانت حياته بأكملها مجرّد مزحة".
يختتم رضوان نصوصه المتفلّتة بمخاطبة إلى "أيّها القارئ الغريب/ أيّتها القارئة الغريبة"، مضيفاً: "هذا الكتاب لا يعبّر عن رأي أحد، ولا حتّى أنا. قد تقول هذه النصوص شيئاً ما، وقد لا تقول أيّ شيء! صدّقوني، لقد وصلتُ إلى هنا كما وصلتم، فتحتُ الباب، ودخلتُ الحفلةَ مثلكم تماماً، وحين أردتُ المغادرة، لم أجد باب الخروج".