رواية لا تخفي موضوعها، لا تُواريه، وإنَّما بدءاً من العنوان إلى الأسلوب إلى التفاصيل كلّها، لا تتوقّف رواية "الطابور" للروائي الروسي فلاديمير سوروكين (1955)، الصادرة عن "دار الرافدين" وبترجمة أنجزها عن الروسية تحسين رزاق عزيز؛ عن القول بأنَّ الحياة هنا، في سنوات الركود السوفييتيَّة المتأخرة، ليست سِوى طوابير انتظار. حيثُ الناس ينتظرون كلَّ شيء، مع الإشارة إلى أنَّهم في الطوابير لا يعرفون ماذا ينتظرون، لا يعرفون الموادّ التي يقفون لشرائها، بانتظار أن يبدأ البيع، وهُم يتساءلون عن بلد المنشأ وعن الكمّية وعن الألوان، وغير ذلك ممّا يجهلون. باختصار، إنَّهم حبيسو نظامهم.
وحين يكون المرء حبيسَ نظامه، وبلده، ليس بوسعه أن يفعل سِوى أن يقتل وقته بشكل طوعي؛ الناس هنا، في الطابور، لا يحتاجون إلى ما يبرّر استلابهم، لا يحتاجون إلى ما يفسّر تلك الرتابة الباردة الاعتيادية في أحاديثهم، لا سيَّما أنَّ الرواية مقتصرة على الحوار، مقتصرة على أناسٍ يمضون أيامهم في الشارع، ينتظرون، يتعارفون، يكذبون حيال شؤون حياتهم، ويتأفّفون لأسباب أحدثها الطابور.
وكأنَّما الطابور امتصَّ حتَّى التفاصيل التي قد تحدث في الحياة العادية. الطابور هو الحياة العادية هنا؛ لا الحب، لا الأبناء، لا الغيرة، لا الكراهية. فقط، نرى أناساً مشدودة إراداتهم إلى فكرة عبثية هي وقوفهم في طوابير من غير أن يحصلوا على شيء. حتَّى بات الانتظار نفسه، ما يشغلهم، ما يسعون إليه، وهو ما يحرّك وعيهم حتَّى في لحظات النشوة التي تعقب الحبّ، أو يأتي بها الحبّ، أو يصنعها الحبّ. وهو هنا، في الطابور، حبٌّ مُصنَّع بالمُصادفة والسُّرعة ذاتها التي قد يصنعها وقوفُ أحد وراء آخر في طابور الانتظار.
النَّص عبثي، بلا شكّ، خاصة عندما نعرف القوانين التي يُولّدها الطابور. إذ يرغب الناس بالوقوف في الطابور الأكثر طولاً، لأنَّ طول الطابور، وعدد الناس الواقفين بانتظار ما لا يعرفونه، هو مقياس جودة ما ينتظرون. الجهل والغموض هما عِماد هذا الاستعباد الأقصى للناس هنا، في الطابور الروسي.
الطابور يُولِّد قوانينه، ويصبح بذاته هو الموضوع الذي يُطبِق على العيش، ويَسرِق العيش، ويرسم صورة الحياة برمّتها، حيثُ يتوزّع الواقفون في الطابور إمّا على الأرصفة، يتكئون على الجدران، أو في خلاء الساحات والشوارع، أو في أفنية المنازل. وهكذا تمضي الحياة، حتَّى الحب يولد حبيساً لهذا النظام، حتَّى إنَّ بطل الرواية الذي نعرف اسمه، وهو "فاديم"، يجد نفسه في النهاية، واقعاً في غرام رئيسة قسم البيع في أحد المتاجر، وتخبره، أنَّ البضاعة تُجرَد، وسوف يبدؤون التوزيع ما إن ينتهي الجرد. لكن هذا لا يحدث، يمكن للقارئ أن يتوقّع هذا، لأنَّ النَّص مكتوب كي يقول لنا؛ كيف يركض الناس للوقوف في الطابور، من أجل أن يقتلوا ساعات حياتهم. وما سوف يشترونه ليس مهمّاً، المهمّ هو أن يهدروا وقتهم في فعل شيء، ولو كان الانتظار.
في الرواية سخرية مريرة من الأسلوب الذي يهدر البشر، حتَّى إن الطابور، يهدرُ إنسانيتهم كبشر، يفقدهم معناهم. حتَّى إنَّهم ينتهون أرقاماً، كما لو أنَّهم جثثُ طافية، تسبح في وقتٍ يسيطر عليه النظام.
بالطبع، الطابور لا يعيق الحياة؛ إلا أنَّه يصيرُ جوهرها؛ هكذا نجد الناس يذهبون إلى السينما، ويعودون إلى الطابور، يذهبون ليأكلوا - في طوابير أيضاً - ثم يعودوا إلى الطابور الذي هو جوهر عيشهم، وقد سطا على حياتهم، وقيَّدهم إليه. مع رتابة فكرة الطابور، إلا أنَّ إحدى الشخصيات التي نقرأ سخطها، تصف الطابور بـ"الملحمة". فهو سخطٌ ينطوي على إعجاب وإشادة، إذ بعد وقتٍ من الاستلاب، يُفتَن المُستَلَبون بما ومَن يعطب عيشهم.
* روائي من سورية
وحين يكون المرء حبيسَ نظامه، وبلده، ليس بوسعه أن يفعل سِوى أن يقتل وقته بشكل طوعي؛ الناس هنا، في الطابور، لا يحتاجون إلى ما يبرّر استلابهم، لا يحتاجون إلى ما يفسّر تلك الرتابة الباردة الاعتيادية في أحاديثهم، لا سيَّما أنَّ الرواية مقتصرة على الحوار، مقتصرة على أناسٍ يمضون أيامهم في الشارع، ينتظرون، يتعارفون، يكذبون حيال شؤون حياتهم، ويتأفّفون لأسباب أحدثها الطابور.
يُفتَن المُستَلَبون بما ومَن يعطب عيشهم
وكأنَّما الطابور امتصَّ حتَّى التفاصيل التي قد تحدث في الحياة العادية. الطابور هو الحياة العادية هنا؛ لا الحب، لا الأبناء، لا الغيرة، لا الكراهية. فقط، نرى أناساً مشدودة إراداتهم إلى فكرة عبثية هي وقوفهم في طوابير من غير أن يحصلوا على شيء. حتَّى بات الانتظار نفسه، ما يشغلهم، ما يسعون إليه، وهو ما يحرّك وعيهم حتَّى في لحظات النشوة التي تعقب الحبّ، أو يأتي بها الحبّ، أو يصنعها الحبّ. وهو هنا، في الطابور، حبٌّ مُصنَّع بالمُصادفة والسُّرعة ذاتها التي قد يصنعها وقوفُ أحد وراء آخر في طابور الانتظار.
النَّص عبثي، بلا شكّ، خاصة عندما نعرف القوانين التي يُولّدها الطابور. إذ يرغب الناس بالوقوف في الطابور الأكثر طولاً، لأنَّ طول الطابور، وعدد الناس الواقفين بانتظار ما لا يعرفونه، هو مقياس جودة ما ينتظرون. الجهل والغموض هما عِماد هذا الاستعباد الأقصى للناس هنا، في الطابور الروسي.
الطابور يُولِّد قوانينه، ويصبح بذاته هو الموضوع الذي يُطبِق على العيش، ويَسرِق العيش، ويرسم صورة الحياة برمّتها، حيثُ يتوزّع الواقفون في الطابور إمّا على الأرصفة، يتكئون على الجدران، أو في خلاء الساحات والشوارع، أو في أفنية المنازل. وهكذا تمضي الحياة، حتَّى الحب يولد حبيساً لهذا النظام، حتَّى إنَّ بطل الرواية الذي نعرف اسمه، وهو "فاديم"، يجد نفسه في النهاية، واقعاً في غرام رئيسة قسم البيع في أحد المتاجر، وتخبره، أنَّ البضاعة تُجرَد، وسوف يبدؤون التوزيع ما إن ينتهي الجرد. لكن هذا لا يحدث، يمكن للقارئ أن يتوقّع هذا، لأنَّ النَّص مكتوب كي يقول لنا؛ كيف يركض الناس للوقوف في الطابور، من أجل أن يقتلوا ساعات حياتهم. وما سوف يشترونه ليس مهمّاً، المهمّ هو أن يهدروا وقتهم في فعل شيء، ولو كان الانتظار.
في الرواية سخرية مريرة من الأسلوب الذي يهدر البشر، حتَّى إن الطابور، يهدرُ إنسانيتهم كبشر، يفقدهم معناهم. حتَّى إنَّهم ينتهون أرقاماً، كما لو أنَّهم جثثُ طافية، تسبح في وقتٍ يسيطر عليه النظام.
بالطبع، الطابور لا يعيق الحياة؛ إلا أنَّه يصيرُ جوهرها؛ هكذا نجد الناس يذهبون إلى السينما، ويعودون إلى الطابور، يذهبون ليأكلوا - في طوابير أيضاً - ثم يعودوا إلى الطابور الذي هو جوهر عيشهم، وقد سطا على حياتهم، وقيَّدهم إليه. مع رتابة فكرة الطابور، إلا أنَّ إحدى الشخصيات التي نقرأ سخطها، تصف الطابور بـ"الملحمة". فهو سخطٌ ينطوي على إعجاب وإشادة، إذ بعد وقتٍ من الاستلاب، يُفتَن المُستَلَبون بما ومَن يعطب عيشهم.
* روائي من سورية