يحتدم الجدل في تونس، هذه الأيام، في صفحات التواصل الاجتماعي، بشأن مسألة الاعتذار، ويدور نقاش ساخن بشأن توقيت هذا الاعتذار ودلالاته، وفائدته أصلاً. يأتي هذا الجدل المحتدم على إثر تدوينات وتصريحات إعلامية عبّر فيها أصحابها عن اعتذارهم عن "العشرية السوداء"، التي حكمت فيها حركة النهضة وحلفائها. وقد صدرت هذه الاعتذارات من مثقفين، منهم الجامعية ألفة يوسف، ومناضلين وإعلاميين، وبعض الفنانين أيضاً. تتضمّن هذه الاعتذارات جملة أخطاءٍ يعتبر هؤلاء أنّهم قاموا بها خلال تلك الفترة: الافتراء على حركة النهضة و"الترويكا" عموماً، والدعوة إلى إرباك المسار الانتقالي من خلال افتعال الأحداث والاشتباك مع "النهضة" في الشارع، وأخيراً، مساندة انقلاب 25 يوليو (2021). يضيف جلّهم، أنّه رغم تحرّش جمهور "النهضة" بهم، في مختلف شبكات التواصل الاجتماعي، فإنّ "النهضة" لم تحاكمهم، ولم تسجنهم، بل تركت لهم الفضاء العمومي والافتراضي حرّاً إلى حدّ الفوضى.
تتالت هذه الاعتذارات إلى حدّ أنّها شكّلت موجةً، ولا ندري تماماً ما الذي دفع هؤلاء إلى إعلان اعتذاراتهم الآن تحديداً؟ غير أنّ للاعتذار علاقة وثيقة بالسياقات التي مرّت بها البلاد، خصوصاً، بعد التوقيفات التي طاولت صحافيين ومحامين ونشطاء جمعيات حقوق المهاجرين تحديداً. وكان القضاء قد وجّه إليهم تهماً تتعلّق، عموماً، بالإساءة إلى الغير، فضلاً عن تبييض الأموال والتآمر. نال الإعلاميان برهان بسيس ومراد الزغيدي سنةً سجناً، في حين تُحال المحامية سنيا الدهماني على المحكمة خلال الأسابيع المقبلة. وقد دفعت موجة التوقيفات، هذه، هؤلاء، فضلاً عن الرأي العام، إلى استشعار الخطر الحقيقي الذي يهدّد، فعلاً، حرّية التعبير وأبسط حقوق الإنسان. نظّمت خلال السبت الماضي مظاهرةً، تعدّ رمزية هامة، رغم أنّ الأعداد كانت متوسّطة، واقتصرت على المكوّنيْن الطلابي والنقابي، غير أنّها شكّلت حدثاً جريئاً بكلّ المعاني، فلقد تمكّنت، بعد أن خرجت من مقرّ نقابة الصحافيين التونسيين، من رفع شعاراتٍ حادّة اختفت خلال السنوات الأخيرة التي أعقبت الانقلاب، وتتوجّه رأساً إلى أعلى السلطة، كما أنّ المظاهرة تمكّنت من دخول شارع الحبيب بورقيبة، الذي مُنعت فيه التظاهرات أيضاً، ولربّما كان رفع الحواجز الحديدية عنه منذ أسابيع قد فتح شهيّة الشباب المُتظاهر.
موجة الاعتذارات، تلك، عدّها بعضهم جزءاً من بداية حملة انتخابية مُبكّرة يقودها خصوم سعيّد، بل ذهب مناصرو الرئيس إلى حدّ اتهام منذر الزنادي المقيم في منفاه الاختياري بباريس، الذي أعلن اعتزامه الترشّح خلال الرئاسيات المقبلة، أنّه وراء هذه الحملة التي تحرص على إحراج الرئيس قيس سعيّد، وعلى تذكيره بحصيلة عهدته الضحلة. في حين ذهب بعضهم إلى الاعتقاد أنّها آخر صيحة فزع، قبل أن تتمكّن آلة الجرف الرهيبة من اكتساح آخر المربّعات المتبقّية. كان العديد ممن ساندوا سعيّد ينتظرون تصحيحياً للثورة التي حادت عن مسارها، وسمّوا حسنة النية هذه بـ"المساندة النقدية"، غير أنّهم ظلّوا ينتظرون هذه اللحظة التي جرف فيها النظام آخر مربّعات مكتسبات عشرية الانتقال، ليتيقنوا أنّ الأمر لا علاقة له بإصلاح انحرافات العشرية، وهي كثيرة، إنّما الأمر العودة إلى دولة الاستبداد. لم تجد موجة الاعتذارات، تلك، ترحيباً من التونسيين، خصوصاً المنخرطين في مختلف أشكال الجدل العمومي، بل جوبهت بكثير من الصدّ، وبالاستهزاء أيضاً، فاعتبرها بعضهم اعتذاراً مُعوّماً لا يمت بصلة إلى أخلاقيات الاعتذار، التي فيها اعتراف بالخطأ والوقوف عنده، وبيان دواعي الوقوع فيه، فضلاً عن ذكر المتضرّرين منه، وفي هذه الحالة هم الإسلاميون والبلاد وتجربة الانتقال الديمقراطي، وهي مسائل عديدة لم يقف عندها المعتذرون.
أمّا بعضهم الآخر، فاعتبروا هذا من قبيل موجة الاعتذار التي تلت سقوط زين العابدين بن علي، التي لم تدُم طويلاً، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة، حين انتصب المعتذرون السابقون سادة النصح والإرشاد. وأخيراً، فقد ذهب من تبقّى من رافضي موجة الاعتذار، هذه، إلى القفز من السفينة التي بدت لهم تترنّح قبيل الموعد الانتخابي الذي لا يزال التونسيون يأملون في أن يكون محطّةً للتخلّص من هذه التجربة، واستئناف مسار ديمقراطية، لا ندري ما هي مقدماتها إن أمكن التخلّص من الرئيس ديمقراطياً، أي بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع التي رفعته رئيساً شرعياً، رغم كلّ المآلات المخيّبة التي انتهت إليها عهدته.
ورغم أهمية هذا الجدل، الذي يجري، فإنّ الأمر مُهمّ، ومن شأنه بيداغوجياً أن يساهم في تحديد جملة الأخطاء التي وقعنا فيها جميعاً. لا أحد يملك صكوك الغفران حتّى يوزعها على هواه. والأرجح أنّ حواراً بين مختلف الفرقاء ظلّ ناقصاً، لذلك، ذهبت هذه الاعتذارات، كي تعبّر عن نفسها، إلى صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، وبرامج القنوات التلفازيّة والإذاعيّة. إنّه دليل إخفاق في تنظيم حوار تونسي يقوم بمراجعات مهمّة.
موجة الاعتذارات، عدّها بعضهم جزءاً من بداية حملة انتخابية مُبكّرة يقودها خصوم سعيّد، بل ذهب مناصرو الرئيس سعيّد إلى حدّ اتهام منذر الزنادي أنّه وراء هذه الحملة
تتالت هذه الاعتذارات إلى حدّ أنّها شكّلت موجةً، ولا ندري تماماً ما الذي دفع هؤلاء إلى إعلان اعتذاراتهم الآن تحديداً؟ غير أنّ للاعتذار علاقة وثيقة بالسياقات التي مرّت بها البلاد، خصوصاً، بعد التوقيفات التي طاولت صحافيين ومحامين ونشطاء جمعيات حقوق المهاجرين تحديداً. وكان القضاء قد وجّه إليهم تهماً تتعلّق، عموماً، بالإساءة إلى الغير، فضلاً عن تبييض الأموال والتآمر. نال الإعلاميان برهان بسيس ومراد الزغيدي سنةً سجناً، في حين تُحال المحامية سنيا الدهماني على المحكمة خلال الأسابيع المقبلة. وقد دفعت موجة التوقيفات، هذه، هؤلاء، فضلاً عن الرأي العام، إلى استشعار الخطر الحقيقي الذي يهدّد، فعلاً، حرّية التعبير وأبسط حقوق الإنسان. نظّمت خلال السبت الماضي مظاهرةً، تعدّ رمزية هامة، رغم أنّ الأعداد كانت متوسّطة، واقتصرت على المكوّنيْن الطلابي والنقابي، غير أنّها شكّلت حدثاً جريئاً بكلّ المعاني، فلقد تمكّنت، بعد أن خرجت من مقرّ نقابة الصحافيين التونسيين، من رفع شعاراتٍ حادّة اختفت خلال السنوات الأخيرة التي أعقبت الانقلاب، وتتوجّه رأساً إلى أعلى السلطة، كما أنّ المظاهرة تمكّنت من دخول شارع الحبيب بورقيبة، الذي مُنعت فيه التظاهرات أيضاً، ولربّما كان رفع الحواجز الحديدية عنه منذ أسابيع قد فتح شهيّة الشباب المُتظاهر.
موجة الاعتذارات، تلك، عدّها بعضهم جزءاً من بداية حملة انتخابية مُبكّرة يقودها خصوم سعيّد، بل ذهب مناصرو الرئيس إلى حدّ اتهام منذر الزنادي المقيم في منفاه الاختياري بباريس، الذي أعلن اعتزامه الترشّح خلال الرئاسيات المقبلة، أنّه وراء هذه الحملة التي تحرص على إحراج الرئيس قيس سعيّد، وعلى تذكيره بحصيلة عهدته الضحلة. في حين ذهب بعضهم إلى الاعتقاد أنّها آخر صيحة فزع، قبل أن تتمكّن آلة الجرف الرهيبة من اكتساح آخر المربّعات المتبقّية. كان العديد ممن ساندوا سعيّد ينتظرون تصحيحياً للثورة التي حادت عن مسارها، وسمّوا حسنة النية هذه بـ"المساندة النقدية"، غير أنّهم ظلّوا ينتظرون هذه اللحظة التي جرف فيها النظام آخر مربّعات مكتسبات عشرية الانتقال، ليتيقنوا أنّ الأمر لا علاقة له بإصلاح انحرافات العشرية، وهي كثيرة، إنّما الأمر العودة إلى دولة الاستبداد. لم تجد موجة الاعتذارات، تلك، ترحيباً من التونسيين، خصوصاً المنخرطين في مختلف أشكال الجدل العمومي، بل جوبهت بكثير من الصدّ، وبالاستهزاء أيضاً، فاعتبرها بعضهم اعتذاراً مُعوّماً لا يمت بصلة إلى أخلاقيات الاعتذار، التي فيها اعتراف بالخطأ والوقوف عنده، وبيان دواعي الوقوع فيه، فضلاً عن ذكر المتضرّرين منه، وفي هذه الحالة هم الإسلاميون والبلاد وتجربة الانتقال الديمقراطي، وهي مسائل عديدة لم يقف عندها المعتذرون.
الأرجح أنّ حواراً بين الفرقاء ظلّ ناقصاً، فذهبت هذه الاعتذارات، كي تعبّر عن نفسها، إلى صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، والقنوات التلفازيّة والإذاعيّة
أمّا بعضهم الآخر، فاعتبروا هذا من قبيل موجة الاعتذار التي تلت سقوط زين العابدين بن علي، التي لم تدُم طويلاً، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة، حين انتصب المعتذرون السابقون سادة النصح والإرشاد. وأخيراً، فقد ذهب من تبقّى من رافضي موجة الاعتذار، هذه، إلى القفز من السفينة التي بدت لهم تترنّح قبيل الموعد الانتخابي الذي لا يزال التونسيون يأملون في أن يكون محطّةً للتخلّص من هذه التجربة، واستئناف مسار ديمقراطية، لا ندري ما هي مقدماتها إن أمكن التخلّص من الرئيس ديمقراطياً، أي بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع التي رفعته رئيساً شرعياً، رغم كلّ المآلات المخيّبة التي انتهت إليها عهدته.
ورغم أهمية هذا الجدل، الذي يجري، فإنّ الأمر مُهمّ، ومن شأنه بيداغوجياً أن يساهم في تحديد جملة الأخطاء التي وقعنا فيها جميعاً. لا أحد يملك صكوك الغفران حتّى يوزعها على هواه. والأرجح أنّ حواراً بين مختلف الفرقاء ظلّ ناقصاً، لذلك، ذهبت هذه الاعتذارات، كي تعبّر عن نفسها، إلى صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، وبرامج القنوات التلفازيّة والإذاعيّة. إنّه دليل إخفاق في تنظيم حوار تونسي يقوم بمراجعات مهمّة.