سيرة الظرفاء (7)
لم ينسَ أبو سعيد ما اتفقنا عليه في اتصالنا السابق.
مساء البارحة اتصل، وبعد الـ مرحبا، والسؤال عن الأحوال، قال لي: اتفقنا أن نحكي عن أبو لطفي (السَمْبَتيك). لا تنس يا أبو مرداس.
- تمام. سأفعل.
كنا قد فتحنا، في أحاديثنا السابقة، سيرةَ الرجال الشرهين للطعام، واستدعى الأمرُ أن نتحدث، في المقابل، عن الأشخاص الذين يدارون صحتهم، ويكتفون بكمية قليلة من الطعام في كل وجبة، وهؤلاء يُطْلَقُ على الواحد منهم، في العرف الشعبي، لقب "رجل سَمْبَتيك"، ومنهم بطلنا أبو لطفي.
وأبو لطفي ليس سمبتيك من جهة تناول الطعام فقط، إنما هو إنسان رقيق، وحساس، ونَفُور من الرجال الخشنين الذين يتصرفون بعنجهية.. وقد اكتشف أصدقاؤه أن هذا الأمر يمكن أن يكون مصدراً ثراً للمفارقات التي تثير الضحك، فراحوا يستغلونها بذكاء شديد، ويصنعون المزيد من المقالب المضحكة.
الواقع أن ذروة المتعة، والإثارة، والكوميديا، تكون عندما يجتمع رجل خشن، غليظ، أو مجموعة من الرجال الخشنين الغليظين، مع أبو لطفي، وتعالَ وقتئذ، تفرجْ على المواقف المضحكة التي تنشأ عن هذا الاجتماع. ولعل أجمل حكاياته، تلك الدعوة التي تلقاها لزيارة قرية "الشيخ صطوف".
قال أبو سعيد: ولكن، يا أبو مرداس، قرية الشيخ صطوف بعيدة، ومنطقتها جبلية وعرة، والوصول إليها ليس بالسهل.
- نعم. وهذا أمر مثير بحد ذاته، فلو كان الوصول إليها سهلاً لما أضحكتنا الأحداث التي حصلت، والتي سأرويها لك الآن، بالتفصيل.
- هات لنرى.
- في يوم من الأيام؛ جاء أبو حافظ، مختار قرية الشيخ صطوف، لزيارة أبو نعمان، أحدِ أفراد الشلة التي ينتمي إليها أبو لطفي. عاتبه لأنهم لم يلبوا دعوته لحضور عرس ابنه الأكبر "حافظ" قبل حوالي شهر، مع أنه دعاهم واحداً واحداً، وهم أكدوا له أنهم سيحضرون، ولكنهم لم يوفوا بوعودهم.
قال أبو نعمان: دعوتك، يا أبو حافظ، على العين والرأس، ولكن، عندما اتصلت بي هاتفياً، بعد العرس، وعاتبتني، أوضحتُ لك أن أفراد شلتنا لا يحبون الأعراس، لأن فيها نوعاً من الفوضى، واختلاط الحابل بالنابل. ولذلك لم نحضر.
- تمام. وأنا قبلت بهذا العذر، ولكنني فكرت أن أعمل على شرفكم عزيمة خاصة، وجئت الآن لأدعوكم إلى عشاء عندي في المضافة، يوم الجمعة القادم، وسوف أذبح خروفين خبأتهما خصيصاً لهذا الغرض.
- أنا موافق، بلا تردد، ولكن المشكلة أن قريتكم بعيدة، وقد يتهرب بعض أفراد الشلة من تلبية الدعوة، وبالأخص أبو لطفي. على كل حال، دعنا نسهر الليلة عندي، ونطرح عليهم الفكرة.
في السهرة، اجتمع أفراد الشلة كلهم، وبضمنهم "أبو سليم الطاحون" الذي يحب الطعام، ويجري وراءه مهما بعدت المسافات، وأبو لطفي (السمبتيك) الذي لا يأكل إلا بمقدار، ويسخر من أولئك الشرهين الذين يلتهمون الأخضر واليابس.. والمهم أنه، في مثل هذه المواقف لا يرفض الدعوة، لأنه لو رفض لأكثروا من الإلحاح عليه، واضطروه أن يقبل.
أبو سليم الطاحونة، عندما سمع بالخروفين شقرق، وصار يتخيل نفسه رافعاً كمي قميصه إلى الأعلى، ومباشِراً بالتهام كراديش اللحم وشفط اللبن الرائب بالإضافة إلى قضم البصل الأخضر الشهي. قال: نحن جاهزون، يا أبو حافظ، عند عيونك، فأنت رجل كريم، الله يخليك ويحفظك.
الآخرون وافقوا، ولكن بحماس أقل، وحينما وصل الدور بالكلام عند أبو لطفي، بدأ يتحدث بطريقته التي تُظهر أقصى درجات الجد، وتبطن الاستهزاء والتهكم. قال مخاطباً أفراد شلته:
- يا إلهي، ما أطيب هذا الرجل، أبو حافظ. طوال عمري لم أصادف رجلاً أكرم منه، ولا أطيب. تصوروا، قبل موعد عرس المحروس ابنه بأسبوع، أتعب نفسه، وأحضر لنا البطاقات المذهبة، وكل واحدة منها مزينة بعبارة (دامت بلابل الأفراح تغرد في ديارهم)، وكان حرياً بنا، يومئذ، أن نهب لتلبية دعوته، ولكننا كسلنا، وتقاعسنا، وباختصار شديد: نحن قَصَّرنا مع الرجل. ولكن هل نسي هو الموضوع؟ أبداً، بالعكس، انتقى أجمل خروفين من خواريف العرس، ووضعهما جانباً، وجاء ليدعونا عليهما. أخي، من الآخر، أنا موافق بحماس، وسوف أنتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر، وإذا أذنَ لي الشباب، سأركب في المقعد الأمامي من السيارة، لكي أصل إلى قرية "الشيخ صطوف" قبل غيري. وأنا، كما تعلمون، لا أحب أن ألف وأدور وأجامل، وأنصحكم، من كل قلبي، أن تقبلوا الدعوة، فمثل هذا الإنسان الكريم، صاحب الذوق الرفيع، يستحيل أن ترفض دعوته. أي نعم.
لم يجد أبو حافظ في كلام أبو لطفي ما يريبه، وأما أفراد المجموعة (الشلة)، فقد أدركوا مقدار التهكم الذي يبطنه، ولا سيما حديثه عن الخروفين، فلو أنه لبى الدعوة، وحضر الوليمة بالفعل، يستحيل أن يذوق أي طعام دسم، بالإضافة إلى أن معظم الحاضرين سيكونون من الرجال الخشنين الغليظين، الذين يهرب من مجالستهم.
المهم؛ أبو حافظ شكر الجميع، بعدما أخذ منهم وعداً رسمياً بحضور الوليمة، ووجه لأبو لطفي شكراً خاصاً على الكلام الجميل الذي سمعه منه.
ومرت الأيام القليلة التي تفصلهم عن يوم الجمعة، وأفراد الشلة يفكرون في أفضل طريقة لإرغام أبو لطفي على مرافقتهم بالزيارة، وقد عقدوا لهذا الغرض عدة اجتماعات قصيرة، وفي آخر اجتماع طرح عليهم "أبو عبدان" أن يستخدموا (طريقة الطَفَّاش) طريقة لإرغام أبو لطفي على مرافقتهم.
سألوه عنها، فقال إن الطفاش هو الشخص المتخصص بصيد الضباع، فكان يذهب إلى وكر الضبع، ويدرس إحداثياته من كل الجهات، بعدها يأتي إلى الباب الأمامي، ويضع أمامه قفصاً كبيراً، ويذهب إلى الباب الخلفي، ويغط خرقة بالمازوت، ويربطها بعصا، ثم يشعلها، فتصدر عنها سحائب من الدخان الأسود الخانق، ويدخلها في الوكر، ووقتها يهرب الضبع من الدخان إلى الأمام، ويخرج من الباب الأمامي، ليجد نفسه في وسط القفص. ويأتي الطفاش، ويغلق باب القفص، ويضع عليه قفلاً كبيراً، ويصبح أسيراً عنده.
ضحك أفراد الشلة، وقال أبو نعمان:
- بدك تدخن على أبو لطفي وتحطه في القفص؟ صدقني إذا بيشم ريحة دخان صوبيا يموت.
رد أبو عبدان: ليس شرطاً أن نستخدم طريقة الطفاش بحذافيرها. المهم، دعوا الأمر لي، وأنا أخرجه.
(للقصة تتمة)